جان بول

ما مصير بيلاروسيا ولوكاشينكو التابع لروسيا؟

12 تموز 2023

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

فلاديمير بوتين وألكسندر لوكاشينكو

هبطت طائرة رئيس «مجموعة فاغنر»، يفغيني بريغوجين، في القاعدة الجوية «ماتشوليشي»، بالقرب من مينسك، يوم الثلثاء الماضي.

كان السماح لبريغوجين بإنقاذ حياته والتوجه إلى بيلاروسيا جزءاً من اتفاق حصل بوساطة الدكتاتور البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بعد حركة التمرد التي أطلقتها «مجموعة فاغنر» في 24 حزيران. يقول لوكاشينكو بكل فخر إنه منع سفك «الدماء السلافية». كذلك، تفاخرت وسائل الإعلام في بيلاروسيا بتواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع لوكاشينكو ثلاث مرات عبر الهاتف في عطلة نهاية الأسبوع التي شهدت تلك الاضطرابات.

يزعم لوكاشينكو أن دوره كان حاسماً في التوصّل إلى حل موقت للصراع على السلطة بين بوتين وبريغوجين. يبدو أن رئيس بيلاروسيا، الذي اعتُبِر لسنوات مجرّد تابع للكرملين، يحاول الاستفادة من الفوضى السائدة في روسيا المجاورة. هل يسعى لوكاشينكو إلى التحرّر من سطوة روسيا؟ وهل سيكون المستفيد الأكبر من التمرد الأخير؟

من المستبعد أن يكون تأثيره كبيراً بقدر ما يدّعي في المفاوضات التي حصلت بين بوتين وبريغوجين. تفيد التقارير بأن المشاورات بحد ذاتها جرت بقيادة أحد مساعدي الرئيس الروسي. في أفضل الأحوال، طوّر لوكاشينكو تلك النقاشات من حيث البروتوكول المعتمد، بفضل منصبه كرئيس دولة. في النهاية، يرفض بريغوجين التحاور مع أيٍّ كان. يجب أن يشارك رئيس معيّن، حتى لو كان تابعاً لبوتين.

وصل لوكاشينكو إلى السلطة في بيلاروسيا منذ 29 سنة. لطالما كان يَحِنّ إلى الحقبة السوفياتية ويطرح خططه الاقتصادية الجاهزة، فاعتبره الغرب في البداية مسؤولاً غريباً في حقبة ما بعد الشيوعية. لكن اتّضح منذ البداية أنه رجل مستعد للدوس على جثث الضحايا في سبيل حماية حُكمه. منذ ذلك الحين، أصبح نظامه أكثر قمعاً وزاد اليأس وسط شعبه. في الوقت نفسه، انهار اقتصاد بلده وزاد اتّكاله على روسيا لأنه لا يملك أي شريك آخر في أوروبا. سرعان ما دمّر سمعته الدولية حين زوّر الانتخابات وقمع المعارضين.

عندما أعلن بوتين حديثاً أنه يخطط لنقل الصواريخ النووية إلى بيلاروسيا، لم يكن قراره يهدف إلى تحسين مكانة لوكاشينكو كتابع له. يزعم الرئيس البيلاروسي أنه يؤثر على توقيت استعمال تلك الأسلحة، لكن تبقى قرارات تشغيلها بيد بوتين وجنرالاته. وصف ويليام ألبيرك من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الوضع بعبارة «ضمّ بيلاروسيا البطيء». بدأ لوكاشينكو يتحوّل مع مرور الوقت إلى رئيس صُوَري وتابع لبوتين: قد يشغل منصباً مرموقاً، لكنه يفتقر إلى أي صلاحيات حقيقية. تعليقاً على الموضوع، يقول وزير الثقافة السابق في حكومة لوكاشينكو، بافيل لاتوشكا، الذي يقيم راهناً في وارسو وأصبح عضواً في المعارضة السياسية في المنفى: «هو مجرّد تابع لموسكو. لم يدم مجده بعد صفقة بريغوجين لأكثر من ثلاث دقائق. إنه انتصار مزيّف».

لم يتّضح بعد إلى متى سيدوم أثر هذا الانتصار أو احتمال أن يطلق محاولة لتحرير البلد أو ترسيخ تبعيّته. ولا أحد يعرف أيضاً ما يمكن أن تتوقّعه بيلاروسيا من المتمرّد بريغوجين، إذ يمكن أن يسبّب هذا الضيف الجديد مشاكل كبرى للوكاشينكو في بلده.

إذا أرادت قوات «فاغنر» أن تستعمل بلد لوكاشينكو كمنصة لإطلاق هجوم مستقبلي ضد أوكرانيا، قد يضطر لوكاشينكو للانجرار إلى الحرب بدرجة غير مسبوقة. حتى الآن، يوحي الوضع بأنه يريد تجنّب هذا المصير. تطرح الاستطلاعات القليلة المتاحة لمحة واضحة عن الوضع: لا يحمل معظم البيلاروس أي أحقاد ضد جيرانهم، ومن المستبعد أن يصدّقوا الحملة الدعائية الروسية بشأن الحكومة الفاشية المزعومة في كييف.

لو لم يكن لوكاشينكو دكتاتوراً وحشياً بهذا الشكل، لكانت مساعيه اليائسة للتحرر من سطوة روسيا تحمل طابعاً مأسوياً. هو تنقّل بين موسكو وبروكسل طوال سنوات، فأحدث انفراجات عابرة من وقتٍ لآخر، وخفّف مستوى القمع قليلاً، ووجّه بعض الضربات المؤثرة لموسكو، وبدا مهتماً بتحسين العلاقات مع الغرب. لكن لم يصدّق الاتحاد الأوروبي نواياه يوماً. على مرّ السنين، أصبحت العقوبات التي تفرضها بروكسل أكثر صرامة تدريجياً.

اختبر لوكاشينكو لحظة انتصار أخيرة في العامَين 2014 و2015، فدعا القادة من روسيا، وأوكرانيا، وألمانيا، وفرنسا، إلى قصره الفاخر في مينسك لإطلاق محادثات تصالحية. لكن لم تسمح الاتفاقيات التي توصلت إليها تلك المفاوضات بحلّ الصراع في إقليم دونباس. وعندما أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا في شباط 2022، أصبحت تلك الاتفاقيات بلا قيمة.

اليوم، تبدو بيلاروسيا أشبه بثقب أسود في وسط أوروبا. لا تتسرّب منها معلومات كثيرة، وحتى القناة البيلاروسية «بيلسات» التي تبثّ من وارسو تعجز عن نقل أخبار كثيرة من البلد. تشير تقديرات المعارضة إلى وجود حوالى ألفَي معتقل سياسي هناك. من الواضح أن الخوف يشلّ سكان بيلاروسيا. ليس غريباً أن يُحاسَب الفرد هناك على منشوراته عبر الإنترنت رغم مرور أشهر عليها إذا كانت تتعارض مع توجّهات النظام. كذلك، قد يُعتبر أي نوع من الآراء المعارِضة شكلاً من «الإرهاب» أو «التحريض على الفوضى العامة»، وقد يعاقَب المرتكبون بقسوة.

بلغ قمع النظام ذروته في أيار 2021، حين أجبرت طائرات بيلاروسية طائرة مدنية تابعة لشركة «رايان إير» على الهبوط في مينسك. كان صاحب المدوّنة المعارِض رومان بروتاسيفيتش وحبيبته على متن تلك الطائرة. اعتُقِل كلاهما وحُكِم عليهما بالسجن لفترة طويلة، ثم استفادا حديثاً من عفو مفاجئ. في المرحلة اللاحقة، أوقف بروتاسيفيتش انتقاداته بعد إطلاق سراحه موقتاً. يقول أليس زاريمبيوك، رئيس «البيت البيلاروسي» في وارسو (مركز ثقافي للبيلاروس في المنفى): «كانت الرسالة واضحة. يقول لنا لوكاشينكو: سأقبض عليكم أينما كنتم. لكن إذا التزمتم الصمت، فقد أعفو عنكم. أنا مصدر العدالة».

يحاول لوكاشينكو السيطرة على التضخم على الطريقة السوفياتية، فمنع زيادة الأسعار بكل بساطة. لكن تشير تقديرات خبراء الاقتصاد إلى تراجع قيمة العملة المحلية بنسبة 15%. في العام 2022 وحده، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5%، وهي أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها البلد منذ التسعينات. لا تزال بيلاروسيا صامدة حتى الآن لأن روسيا تزوّدها بالغاز والسلع. لكن لا يعاني جميع سكان البلد من الجوع: لوكاشينكو ليس حاكماً مطلقاً. هو يتّكل بشكلٍ أساسي على الجهاز الأمني، والمسؤولين العسكريين، وأجهزة الاستخبارات والشرطة. يحصل هؤلاء على أجور تفوق المتوسط العام أو يستفيدون من امتيازات معينة عند البحث عن أماكن إقامة مثلاً. لتحقيق هذه الغاية، جمع الدكتاتور مجموعة من الأوليغارشيين الموالين له ومنحهم عقوداً حكومية. في المقابل، قام أحدهم ببناء فيلا للوكاشينكو في الغابات بالقرب من الحدود البولندية، فيها مهبط للطائرات وبحيرة من صنع البشر للسباحة. وبنى أوليغارشي آخر عيادة خاصة لعائلة لوكاشينكو فيها أحدث التقنيات الطبية.

هكذا يصف معارِض هرب إلى بولندا النظام المحيط بالدكتاتور على الأقل. هو يعتبر الجهاز الأمني «فاسداً لأقصى حد». يقول هذا المعارض الذي رفض الإفصاح عن اسمه الحقيقي: «يشمل البلد أكثر من ألف شخص فوق القانون». وحتى بولندا المنتسبة إلى الاتحاد الأوروبي ليست بمنأى عن سطوة لوكاشينكو: «المشاكل الاقتصادية والمخاوف نسفت مجتمعنا. لم يعد الناس يثقون بأحد».

في الفترة الأخيرة، تلقى لوكاشينكو دعوة من موسكو لحضور احتفالات تستذكر الانتصار في الحرب العالمية الثانية. لكنه بدا تائهاً ومنزعجاً وراح يتنقّل بسيارة كهربائية. ثم اختفى عن الأنظار لبضعة أيام. يبلغ لوكاشينكو 68 عاماً، ويعاني من الوزن الزائد، ومن الواضح أنه لا يهتم بصحّته كثيراً. خلال أزمة كورونا، أوصى الناس بشرب الفودكا وجلسات السونا وركوب الجرّارات لمحاربة الفيروس.

يتساءل المراقبون عن احتمال سقوط النظام عند وفاة لوكاشينكو. لكن يستبعد خبراء مثل الصحافي البولندي جاكوب بيرنات هذا الاحتمال. هو يقول إن الكثيرين في البلد يستفيدون من النظام القائم. لن يسمح المسؤولون في الجهاز الأمني بأي تغيير لأنهم سيتعرّضون حينها للملاحقة القضائية. الأهم من ذلك هو أن روسيا لن تسمح بتوسيع هامش الديمقراطية في البلد يوماً. يضيف بيرنات: «بيلاروسيا هي آخر زاوية تسمح باستمرار أحلام بوتين بتجديد الإمبراطورية الروسية. كما أنها تُعتبر النموذج المثالي لما ستواجهه أوكرانيا إذا خسرت الحرب: القمع والتبعية».

قد يصبح أحد أبناء لوكاشينكو رئيس البلد بعده. يخضع ابنه الأكبر، فيكتور، لعقوبات دولية أصلاً بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان، ومن المعروف أن ابنه الثاني، ديمتري، يرتبط بالنظام بصفته مقاولاً. أما ابنه الأصغر نيكولاي، فقد سُمِح له بالظهور إلى جانب والده وهو يرتدي زياً مُصمّماً على الطريقة السوفياتية في طفولته. لن يتفاجأ أحد في مينسك إذاً من بقاء السلطة بيد السلالة نفسها، كما يحصل في كوريا الشمالية مثلاً.

اعترف لوكاشينكو شخصياً بهشاشة حُكمه، فقال في خطاب ألقاه يوم الثلثاء الماضي: «إذا انهارت روسيا، فسنُدفَن تحت أنقاضها ونموت جميعاً».


MISS 3