إيمي ماكينون

هجوم موسكو الإرهابي يشوّه صورة بوتين كزعيم قوي

20 نيسان 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قاعة الحفلات الموسيقية Crocus City Hall بعد العملية الإرهابية في كراسنوجورسك خارج موسكو | روسيا، 22 آذار 2024

كان الهجوم الإرهابي الذي نفّذه تنظيم «الدولة الإسلامية» خلال حفل موسيقي مزدحم في ضواحي مدينة موسكو، أعنف اعتداء تشهده روسيا منذ عقدَين، فقد أسفر عن مقتل 143 شخصاً على الأقل. لكن جاء الهجوم على قاعة «كروكوس سيتي هول» ليُذكّر الكثيرين بأحداث العقد الأول من الألفية الثالثة، حين كانت الاعتدءات الإرهابية، التي تترافق مع سقوط عدد كبير من القتلى، حدثاً اعتيادياً في روسيا.



وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السلطة قبل فترة قصيرة من بداية هذا القرن، وكانت موسكو حينها منشغلة بإطلاق حملة وحشية لقمع التطرّف العنيف والحركات الانفصالية في جمهورية الشيشان المضطربة في شمال القوقاز. كانت تلك الحرب السبب وراء شعبية بوتين، فقد بنى حملته الرئاسية على أساس كبح التهديدات الإرهابية. قال بوتين بعد سلسلة تفجيرات استهدفت الشقق السكنية في العام 1999: «سنلاحقهم في كل مكان. سنقبض عليهم في الحمّامات. سنقضي عليهم في المباني الخارجية».

لكن رغم خطابات بوتين الهجومية، تابع مسلّحون من شمال القوقاز اعتداءاتهم في أنحاء روسيا طوال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ففجروا وسائل نقل عامة وطائرات وحاصروا مسرحاً في موسكو. وفي واحد من أعنف الحوادث على الإطلاق، احتلّ مقاتلون من الشيشان مدرسة في بلدة بيسلان، فأخذوا أكثر من ألف رهينة، معظمهم من الأولاد، واحتجزوهم لأكثر من ثلاثة أيام في العام 2004. انتهت تلك المواجهة حين اقتحمت القوات الروسية المدرسة وقُتِل 334 شخصاً. انتقد حُكم صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان روسيا لاحقاً لأنها لم تستفد من المعلومات الاستخباراتية المرتبطة بالتخطيط لذلك الهجوم في المنطقة ولأنها استعملت أسلحة «عشوائية»، مثل مدافع الدبابات، لاقتحام المدرسة، ما أدّى إلى ارتفاع حصيلة القتلى.

بدأت تلك التهديدات تتلاشى خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ثم انشغل الكرملين بشؤون أوكرانيا. لكن يكشف هجوم يوم الجمعة أن روسيا لا تزال معرّضة لأعمال عنف إرهابية. هذا الوضع يُجدّد الأسئلة حول قدرة الأجهزة الأمنية عموماً وبوتين خصوصاً على حماية المواطنين من تلك الاعتداءات.

جهاز الأمن الفدرالي الروسي مسؤول عن الأمن الداخلي والاستخبارات، وهو يُعتبر أيضاً أبرز جهاز استخباراتي تابع للكرملين في أنحاء المساحات السوفياتية السابقة، وكان دوره بارزاً في التخطيط لغزو أوكرانيا.

في هذا السياق، يقول كيفن ريهل الذي أمضى ثلاثة عقود وهو يعمل في أوساط الاستخبارات الأميركية، وهو مؤلف كتاب جديد عن تاريخ جهاز الأمن الفدرالي الروسي: «لم يتوقع جهاز الأمن الفدرالي وقوع الهجوم، لا بسبب قلة كفاءته، بل لأنه كان يُركّز على أماكن أخرى».

فيما راح الكرملين يقمع المعارضة والمجتمع المدني بوتيرة متواصلة خلال العقد الماضي، تضخّمت مهام جهاز الأمن الفدرالي الروسي. وضعت المحاكم الروسية أكثر من 14 ألف شخص وكيان في خانة المتطرفين، بما في ذلك عدد من حركات المعارضة، وشهود يهوه، والشركة الأم لـ»فيسبوك»، و»ميتا»، وأخيراً حركة المثليين، ما أدى إلى وضع هذه المنظمات بمصاف جماعات مثل «القاعدة». من واجب جهاز الأمن الفدرالي أيضاً أن يراقب هذه المنظمات كلّها.

برأي أندريه سولداتوف، وهو صحافي روسي وخبير في الأجهزة الأمنية، أدّت هذه الأعباء المتزايدة على الأرجح إلى استنزاف موارد الوكالة. لكنها تعكس في الوقت نفسه دور جهاز الأمن الفدرالي القديم في مراقبة التهديدات الأمنية التقليدية والتحديات المطروحة على القيادة الروسية في آن. يضيف ريهل: «ظهرت المطالبات بأن يكون جهاز الأمن الفدرالي موالياً للرئيس وحده قبل أن يصبح بوتين رئيس البلد. إنه طلب الرئيس السابق بوريس يلتسين خلال التسعينات».

على صعيد آخر، قد يعيق تسييس الأجهزة الأمنية قدرتها على إبلاغ كبار المسؤولين بأي حقائق مزعجة أو غير مناسبة. وفق بيان أصدره البيت الأبيض بعد الهجوم، حاولت الولايات المتحدة أن تحذّر روسيا عبر إبلاغها بمعلومات استخباراتية عن التخطيط لهجوم محتمل ضد تجمّعات واسعة في موسكو، بما في ذلك حفلات موسيقية. لكن قبل ثلاثة أيام على وقوع الهجوم، تجاهل بوتين التحذيرات الغربية علناً واعتبرها مجرّد «ابتزاز» ومحاولة لزعزعة استقرار البلد.

يقول سولداتوف: «لنتخيّل أن يتلقّى مسؤول في جهاز الأمن الفدرالي الروسي هذا التحذير. يقضي واجبه في تلك المرحلة بنقل التحذير إلى رؤسائه. لكنه سيفكّر أولاً بسلامته الشخصية، فيخشى أن يواجه تُهَماً بالخيانة أو التقرب من الأميركيين».

بعد هجوم 11 أيلول، كان بوتين أول زعيم عالمي يتصل بنظيره الأميركي جورج بوش الابن لتعزيته، فاعتبر حينها معركة روسيا في الشيشان جزءاً من حرب واسعة على الإرهاب. لكن يذكر مسؤولون سابقون في وكالة الاستخبارات المركزية أن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين روسيا والولايات المتحدة لطالما كان ضعيفاً ومليئاً بالشبهات. يتذكر دوغلاس لندن، مسؤول متقاعد من وكالة الاستخبارات المركزية، أن المسؤولين الروس كانوا يتهمون الولايات المتحدة باختراع «الدولة الإسلامية» خلال الاجتماعات المشتركة.

اعتبر خبراء ومسؤولون سابقون في الاستخبارات الأميركية جهاز الأمن الفدرالي الروسي أداة قوية استفاد منها الكرملين على مرّ السنين، لكن أُعيق عمله على الأرجح في أكثر الجوانب حساسية من عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية ومكافحة الإرهاب. يقول لندن إن المسؤولين الأمنيين لا يتمتّعون بالصبر الكافي لنشر الجواسيس والعملاء ببطء.

لكن بعد الفشل في منع الهجوم، بدأ الكثيرون في روسيا يشكّكون علناً بكفاءة الجهاز الأمني الواسع الذي يقوده بوتين. تعليقاً على الهجوم، كتب المحلل السياسي فلاديسلاف إينوزيمتسيف: «ما حصل استثنائي لأن قوات الأمن في روسيا تعجز للمرة الأولى عن منع هجوم إرهابي بهذه الضخامة: دخل الإرهابيون بكل حرية إلى المبنى، وقتلوا عدداً كبيراً من الناس أو أصابوهم بجروح بالغة، ثم غادروا ساحة الجريمة بكل هدوء. بعد سنوات على تشديد الإجراءات الأمنية وإنفاق تريليونات الروبل، ذهبت هذه الجهود سدىً».

اتّهمت ماريا بيفتشيخ، مساعِدة المعارِض الراحل أليكسي نافالني، الوكالات الأمنية «بالانشغال بمحاربة السياسيين، والناشطين، والصحافيين، لدرجة ألا تجد الوقت الكافي للتعامل مع الإرهابيين».

نَسَب المسؤولون الأميركيون الهجوم إلى فرع «الدولة الإسلامية» في ولاية خراسان، في أفغانستان. أعلنت هذه الجماعة مسؤوليتها عن الهجوم ونشرت فيديو يقال إن أحد المنفذين المزعومين التقطه خلال الاعتداء. ركّز قسم الحملات الدعائية في هذه الجماعة السنية على روسيا في السنوات الأخيرة بسبب توثيق العلاقات بين الكرملين وإيران الشيعية، فضلاً عن دور موسكو في الحرب الأهلية السورية، إذ راحت روسيا تقصف المعاقل السنّية بضربات جوية لمساعدة الرئيس بشار الأسد المنتمي إلى الطائفة العلوية (فرع من الشيعة).

يقول كولين ب. كلارك، مدير قسم الأبحاث في «مجموعة صوفان»: «تعتبر «الدولة الإسلامية» روسيا في طليعة داعمي الإسلام الشيعي في هذه المرحلة. اتُّهِم الروس أيضاً بسفك دماء عدد كبير من المسلمين منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان، بين العامين 1979 و1989، ثم الحروب الوحشية في شمال القوقاز».

يظنّ دوغلاس لندن، الضابط المتقاعد من وكالة الاستخبارات المركزية، أن روسيا أصبحت معرّضة جداً لاعتداءات إضافية من تخطيط هذه الجماعة. ذكرت وسائل إعلام روسية أن أربعة رجال متّهمين بتنفيذ هجوم يوم الجمعة هم مواطنون طاجيكيون. تتقاسم طاجيكستان حدوداً طويلة مع أفغانستان، وقد سعى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى تجنيد المسلحين من جماعات متطرفة محلية في البلد ومن بلدان أخرى في آسيا الوسطى.

يستطيع مواطنو طاجيكستان أن يسافروا إلى روسيا ويقيموا فيها بلا تأشيرة لفترة تصل إلى تسعين يوماً، ويشمل البلد أيضاً شريحة واسعة من الشتات (حوالى 1.3 مليون طاجيكي). يستعد جزء كبير منهم اليوم لتحمّل ردود أفعال قوية من السلطات والمواطنين الروس بعد الهجوم.

في النهاية، يقول ريهل: «لن يتعامل جهاز الأمن الفدرالي الروسي مع الوضع المستجد ببراعة تفوق طريقة تعامله مع الاعتداءات بعد العام 2000، ما يؤدي إلى ظهور فئة مرعوبة وغاضبة من الناس، فيصبح هؤلاء أكثر ميلاً للانضمام إلى الجماعات المتطرفة، ما يعني أن الوضع سيزداد سوءاً».

MISS 3