مصطفى علوش

الاختباء وراء التعدّدية للحفاظ على السلطة

7 آب 2023

02 : 00

«قد أتاك يعتذر

لا تسله ما الخبر

كلما أطلت له

في الحديث يختصر

في عيونه خبر

ليس يكذب النظر»

(بشارة الخوري الأخطل الصغير)

أريد أن أستهل كلامي بالاعتذار من أستاذي البروفسور جورج حبيقة الذي تحدث في مقابلة تلفزيونية منذ فترة قصيرة عن موجبات التعددية الثقافية وانعكاساتها السياسية والحاجة إلى تشريعات إدارية تستند إلى التعددية. اعتذاري هو لمخالفتي بعضاً مما أتى به، فحصر معنى كلمة (cultura) وهي تعني عملية دينامية ومتعددة الأوجه تؤثر وتتأثر بالعلاقات المتشعبة في العالم، باستناده إلى كلمة (cult) كأساس، وهي تعني العبادة وكأنّها مصدر للثقافة من دون غيرها من المعطيات.

صحيح أنّ تقاليد وشعائر العبادات هي جزء من الثقافة، لكن حتى مظاهر العبادات غير ثابتة، لا عبر الزمان ولا عبر المكان، مع أنّ البعض منا يعتقد خاطئاً أنّ تلك العبادات وجدت منذ الأزل وباقية إلى الأبد، وهو ما يمكن تسميته بالأصولية التي تعتبر أنّ ما كان صحيحاً أو ممارساً في الماضي (المجيد) يصح في الحاضر والمستقبل.

باختصار، فإنّ ما توافق عليه معظم علماء الاجتماع هو أنّ الثقافة المرتبطة بمجموعة من البشر تعني جوانب الحياة الإنسانية جميعها من تراث ومنتج مادي وغير مادي ومن فنون وأفكار وتراث وقيم وعادات وتقاليد تحكم العلاقات الاجتماعية وعلاقات الأفراد. أمّا على مستوى الأفراد فمن معانيها أنّ الإنسان الثَقِف هو المُحكِم للأمور، وقد تعني الحذق والفطن. وعندما يُقال «ثقّف الشيء» فهو يعني حذقه وفهمه، وهو بالنسبة لي يشتمل على القدرة الواعية لاكتساب المعرفة على سبيل الفهم والاستنتاج والقدرة على انتقاد ونقض الأعراف وعادات المجتمع عند اللزوم، والاستفادة من تقاطع الثقافات واختلافها بشكل جدلي على طريقة «هيغل»، حيث يؤدي الجدل بين الأضداد إلى نشوء حال جديدة، يقابلها ضد جديد ليستمر الجدل من دون انقطاع.

من هنا، فإنّ الحراك الجدلي هو ما يحكم المجتمعات المتعددة من خلال تجارب أفرادها، لينتج عن ذلك ثقافة مجتمعية، هي نسيج من هذا وذاك، مع تفاوت في فهم هذا النسيج ومعانيه بين الأفراد. لكن علم الإحصاءات يؤكد على أنّ الأكثرية الساحقة من الناس تقع عادة في الوسط الذهبي الجامع ما بين العادات المركبة من مصادر شتى، في حال كان الوضع العام مستقراً، فيما تبقى أقلية على طرفي النقيض، من أقصى التزمّت إلى التحلل الكامل.

لكن، في حال الأزمات، وبالأخص الصراع على الموارد وعلى السلطة لتأمين أكبر حصة من الموارد، تتقلص مساحة الوسط الذهبي، ويتمترس معظم الناس في الأطراف، ويأخذ التزمت من عقول الناس، في حين يصبح من بقي في الوسط الذهبي متهماً ومائعاً وخائناً وكافراً.

لنعد إلى أرض الواقع بعدما أضجرت القارئ بالكثير من النظريات، وبعضها شخصي لا يتفق بالضرورة مع نظريات أخرى، لكن مسألة التعددية الثقافية في لبنان ذات الطابع المذهبي الطائفي أصبحت موضة اليوم في الإعلام، وتحظى بالكثير من الدعاية المغلّفة بالكثير من المعطيات البحثية غير المثبتة، لكونها في معظم الأحيان تتحدث عن مسائل وضعية، لا يمكن تعميمها لصعوبة المقارنة بين حال وأخرى كإعطاء سويسرا أو بلجيكا أو تشيكوسلوفاكيا كأمثلة.

المؤكد هو أنّ تلك الدعوات كانت تختفي إلى حد كبير أثناء فترات الرخاء والاستقرار، وإن كان نسبياً، وتتعاظم كمّاً، وليس بالضرورة نوعاً، أثناء الشدائد. ما تغفله، أو بالأحرى تتغافل عنه، معظم الطروحات عن التعددية هو دور التنافس على الموارد والسلطة في صنع الشدائد، وبالتأكيد يتم تغليفها، على الأقل عندنا، بلباس التعددية الثقافية والحريات الشخصية، بدل طرحها بشكل واضح بكونها صراعاً سبق الثقافات والالتزامات والعقائد والعبادات في التاريخ، وهو قد يكون سبباً لنشوئها، وهو تأمين الموارد والسلطة عليها. ولو عدنا لمئة سنة إلى الوراء، وتجاوزنا فكرة «وطن الرسالة» أو «مواطنة تتجاوز الأديان»، لكان واضحاً أنّ الأساس المصلحي لفكرة «لبنان الكبير» كانت تأمين مصادر القمح من السهول، بعد تجربة المجاعة المعروفة خلال الحرب العالمية الأولى، على الأخص في جبل لبنان. أما الجزء الآخر فقد كان السعي إلى السلطة وراء قبوله بالمشاركة.

صحيح أنّ الكثيرين من نخب المسيحيين وممثليهم رفضوا مبدأ تقاسم السلطة على أساس طائفي وأصروا على الديموقراطية، أكان بدافع مبدئي أو لشعور بالغلبة العددية، وصحيح أيضاً أنّ ممثلي المسلمين بشكل عام أصروا على تقاسم السلطة على أساس طائفي، ربما لشعور بالدونية العددية، لكن المؤكد هو أنّ البطريرك الحويك أدرك أنّ الأكثرية العددية قد لا تدوم، وأن التقاسم الفيدرالي لمواقع السلطة قد يضمن للمسيحيين بعضاً من الأمان في المستقبل.

لكن الواضح في الأساس هو أنّ سبب إنشاء وطننا الحبيب هو مصلحي لضمان الموارد أولاً، وأنّ نظامه السياسي ركب، ليس للحفاظ على التعددية الثقافية، بل لضمان الحصص في السلطة المتحكمة بالموارد. وحتى اليوم، فإنّ مسألة الضرائب والكهرباء والوظائف في الفئة الأولى والصرف الصحي والنفايات كلها تدخل في الجدل التقسيمي الفيدرالي المطروح اليوم.

المؤكد أيضاً هو أنّ السعي إلى «إنشاء مناطق حرة من السلاح» تحت لواء «التعددية» يعود في أساسه إلى العجز الواضح في طرح مسألة سلاح «حزب الله» بشكل موضوعي وتسميته باسمه المنطقي أي «احتلال بالوكالة»، ما يدعو الجميع لمواجهته بشكل موحد ومن دون مواربة، بدل الهروب الانتحاري إلى خرائط مشوهة تستند إلى الطائفة كوحدة اجتماعية ثقافية، متجاهلين أن جزءاً واسعاً من اللبنانيين ينتمون إلى ثقافة متشابهة، رغم كونهم من أديان مختلفة. السؤال إلى دعاة التعددية الثقافية هو كيف يمكن ثقافياً فرز هؤلاء فيدرالياً أو أكثر؟


MISS 3