مصطفى علوش

غياب السلطة وشريعة الطبيعة

6 تموز 2023

02 : 00

«يبكي ويضحك لاحزناً ولا فرحا

كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا

لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن

لكنت أرفق مـن آسى ومن صفحا

فالروضُ مهما زهتْ قفرٌ اذا حرمت

من جانحٍ رفَّ أو من صادحٍ صدحا»

بشارة الخوري - الأخطل الصغير



في كل مرة أبحث فيها عن أصل النزاع بين البشر، أعود إلى ذاك العبقري الفيلسوف السياسي الأهم، ربما بعد ابن خلدون ومكيافيلي، توماس هوبس. في كتابه المرجعي «الطاغوت»، تحدث عن البشر في حال الطبيعة، أي من دون عقد اجتماعي ترعاه سلطة أقوى من الجميع برضى الجميع. يقول هوبس إنّ البشر في ظل الصراع على الموارد، وانعدام السلطة الراعية والرادعة التي تسهر على تطبيق العقد الاجتماعي، يصبحون كالذئب للآخر. ثم يؤكد على أنّ الطبيعة العدائية للبشر هي الأساس، أمّا العلاقات الودية والتعاون فيأتيان فقط بوجود سلطة ضامنة للعلاقات بين الناس، أكان في الثواب أم في الحساب.

من هنا، فإنّ دور السلطة المرجعية المتوافق عليها هي العنصر المحوري في إنشاء المجتمعات لأنّها الرادعة أولًا، ومن ثم الراعية، في ظل تفاهمات تصبح أعرافاً ومن ثم قوانين ودساتير يمكن الرجوع إليها عند تضارب المصالح، أو الرجوع عنها عندما يتخطاها الزمن أو تثبت أنها غير مجدية.

ما كتبه هوبس في القرن السابع عشر أتى على خلفية حرب أهلية دينية عمّت أوروبا وانكلترا حولتهما إلى ساحات موت ودمار لأكثر من قرن من الزمن. ومع أنّ العنوان الأساسي الذي وصم تلك الحرب الطويلة كان طائفياً أو دينياً، لكن هوبس راح إلى بحث عن أصل الصراع، ألا وهو التنافس على الموارد والفوضى العنيفة التي يتسبب بها هذا الصراع في حال غياب المرجعية المتفق عليها لتنظيم وضبط إيقاع السباق المحموم والمنطقي على الموارد.

يقول هوبس إنّ الحق الأعلى للبشر هو الحفاظ على الذات، وفي ظل غياب سلطة تعطي قدراً معقولاً من الأمان للأفراد، يقع عاتق الحفاظ على الذات على الفرد أولاً، ومن ثم بعض المجموعات الصغيرة التي قد لا تتعدى عدد أصابع اليد. هذا يعني أنّ الفرد عليه أن يقضي كل وقته في جهد دائم للحفاظ على الذات، ليل نهار وعلى مدار السنة، ومع ذلك فإنّ النتيجة غير مضمونة، إلا في ما ندر من الحالات.

هنا، وللإشارة، كان ذلك قبل ظهور مجموعات تربط أفرادها بكتاب مقدس أو مجموعة من الشعائر والرؤى الحياتية والماورائية. يقول هوبس إنّ السبب في إنجاز العقد الاجتماعي الابتدائي الذي سمح بنشوء المجتمعات الموسعة هو السبب ذاته الذي تسبب بعدم إنشائها، أي خوف الفرد على حياته من الآخر الخائف هو بدوره. هنا يتفاهم الجميع على تعيين سلطة يسميها هوبس «لفياثان»، وهو اسم وحش عبراني أسطوري يثير الرعب في قلوب البشر. الهدف هو أن يحيا الناس في مجتمعات من دون أن يخاف الفرد فيها من الآخر في ظل الخوف من عقاب «لفياثان» لمن يعتدي أولاً. اعتبر هوبس أنّ تلك السلطة يجب أن تكون مطلقة وغير محدودة أو مقيدة بقانون لكونه هي فوقه ومصدره في الوقت ذاته.

بالطبع، فقد أتت لاحقاً اجتهادات لوضع قوانين وأعراف لتقييد السلطة ودفعها للاستدامة من خلال وهم قدرة «المواطنين» على محاسبتها أو تغييرها عند الحاجة. هذا ما دفع بالسلطة لتتحول إلى الرعاية والحماية المجتمعية، بالإضافة لكونها رادعة بالقوة الشرعية. باختصار، فإنّ السلطة يجب أن تكون مزيجاً متوازناً من الردع والرعاية حتى تدوم، أو تؤمن الانتقال السلس في السلطة.

كما أشرتُ في البداية، لم تكن المنظومات الاجتماعية التي نسميها طوائف أو أدياناً سبباً لاندلاع الصراع، بل هي طبيعة البشر في حال الطبيعة، أي الصراع على الموارد وخوف الفرد من الآخر في غياب السلطة. فلو كان الأمر مثلًا إهانة الرموز الدينية، لكان الصراع نشأ ضمن الطوائف لكثرة من يسب دينه من الطائفة ذاتها، وفي حال حصلت ردات فعل فهي تبقى محصورة ومحدودة التأثير، وغالباً ما تكون خلفياتها لا علاقة لها بالدين! فنرى مثلًا الفروقات الطبقية والاجتماعية، أو الصراع على الموارد في حال ندرتها، أو التنافس على النفوذ بمختلف أشكاله، بداعي السيطرة للمزيد من الأمان الشخصي أو المجتمعي. كما أنه من الواضح أنّ الصراعات ذات الواجهة الدينية تبرز وتتفاقم في حالات الفاقة والتدهور الاقتصادي، ونادراً ما تتفجر في حال الرخاء، وليس صدفة قولنا «القلّة تأتي بالنقار».

جريمة القرنة

كل ما سبق من مقدمة طويلة، وقد تكون مملة، أتى على خلفية قصة الصراع الطائفي على الملكية، في القرنة وغيرها. هذا الكلام أقوله بغض النظر عن الدوافع السوداء لجريمة القرنة السوداء، أكانت مؤامرة أم تهوراً أم عملاً خبيث وإجرامياً. فلولا الحساسيات الطائفية المزمنة كالمرض العضال في لبنان لكانت حُصرت القضية في صراع على الموارد يحصل دائماً ضمن العائلة الواحدة، وبالتأكيد بين أفراد ومجموعات من دين وطائفة واحدة.

يكفي أن نتذكر أنّ ما يحصل في السودان اليوم هو ضمن دين واحد، كذلك الصراع العضال القائم في ليبيا. التاريخ والحاضر يؤكدان كلامي، لكن المؤكد هو أنّ فقدان السلطة المرجعية للحماية والرعاية يجعل من تفجر وتفاقم تلك الصراعات أمراً حتمياً. لكن فقدان السلطة في لبنان بشقيْها الرادع والرعائي يعود إلى استنسابية تطبيق القانون، وازدواجية سلطة الردع، وتواطؤ القيمين على شؤون الناس لمجرد استمرارهم في مواقعهم.

صحيح هو أنّه قد يكون هناك من يسعى «للتآمر» على لبنان، لكن الصحيح أيضاً هو أنّ شعبنا لا يحتاج لمن يتآمر عليه ليحدث فتنة، فتصرفاتنا ونهجنا وعلاقاتنا وتفاهة قيمنا، بنخبنا وعامتنا على السواء، هي مؤامرة دائمة لا تحتاج لمن ينسجها.


MISS 3