عيسى مخلوف

وقفة من باريس

أيّ أثر يبقى في غياب المكان الأوّل؟

19 آب 2023

02 : 00

لوحة للفنّان شفيق عبّود

ثمّة فنّانون مبدعون تستفيد منهم البلدان التي وُلدوا فيها، في حياتهم ومع مرور الزمن، أكثر بكثير ممّا يستفيدون هم منها. وهناك بلدان أخرى تُبرز قيمة أعمال مبدعيها وتساعدهم على نشرها في نواحي الأرض من خلال المعارض والكتب، وحين تحين الساعة، تُحَوِّل محترفاتهم إلى متاحف يؤمّها المهتمّون بالفنّ والسيّاح على السواء.

عشيّة الحرب الأهليّة في لبنان، ظننّا أنّ بإمكان البلد الصغير أن يحتفي بمبدعيه يوم تحقّقت «دولة الثقافة» في موازاة دولة السلطة السياسيّة، وقبل أن تبدأ الحرب ويشهد البلد حملة اغتيالات طالت مفكّرين ومثقّفين، وطالت معهم أيضاً هامش الحرية، بل «دولة الحلم» التي صنعت الوجه المضيء للبنان خلال عقدين من الزمن. «دولة الحلم» تلك، كانت النقيض لدولة السياسة وأمراضها المستعصية، وكانت المُعارض الأوّل لها، والمفكِّكة لعنفها وتناقضاتها. أمّا اليوم، فجاء من يضع يده على الثقافة ويمنع فيلماً من هنا وكتاباً من هناك، «باسم أخلاق المجتمع وقِيمه»، في حين أنّ هذا المجتمع استُبيح بوجوده على جميع المستويات، في غياب العدالة والقانون، وفي عدم توفير أبسط حقوق الإنسان.

في ظلّ هذا المناخ العامّ، لا يزال ثمّة فنّانون، ومنهم من ينتمي إلى الجيل الجديد، يواصلون نشاطهم ويعرضون أعمالهم بشكل مدهش، وبمبادرات خاصّة أو بالتعاون مع بعض الغاليريات. وهم يعملون في الظروف الصعبة الراهنة كمن يحفر نافذةً في الصخر. أمّا روّاد الفنّ اللبناني، وبعضهم تركَ أثراً في المشهد الفنّي العربي، فلقد توارى وجودهم، وكُثر منهم لم يصدر لهم كتالوغ واحد يجمع أعمالهم، لا في حياتهم ولا بعد موتهم. أتوقّف هنا، وللمرّة الثانية خلال سنوات، عند الفنان التشكيلي اللبناني شفيق عبّود الذي تعرّفتُ إليه في باريس، وتابعتُ تجربته الفنّيّة عن قُرب. لقد اختار العاصمة الفرنسيّة مكان إقامته، وبدأ يعرض فيها منذ العام 1955، وهنا تعرّف على الحركات الفنية وانتسب منذ مطلع الستينات إلى تيّار معروف بالتجريدية الغنائية. وهو يَعتبر أنّ التجريد الغنائي الذي يؤسّس للقاء مختلف مع الفنّ التصويري، يشكّل انعطافاً بالنسبة إلى التجريد الكلاسيكي الذي عرفناه مع روّاد من أمثال كاندنسكي وماندريان وماليفيتش.

لم يركن عبّود خلال مسيرته الطويلة الى تقنية واحدة في عمله الفنّي، فهو، إضافة الى الرسم على القماش، مارسَ الحفر على الخشب والحياكة بتقنيات فنية تشكيلية. وهذا ما عكس تعلّقه بالأعمال اليدويّة التي كان يستريح من خلالها، على حدّ تعبيره، ويخلق فسحة ضروريّة قصيرة بينه وبين الرسم. وكان الفنان مؤمناً بأنّ حرية التعبير هي وحدها التي تضمن الاستمرار والتجدّد.

رحل عبّود في العام 2004 من دون أن يكون قد صدر كتاب واحد عن تجربته وعن مساره الفنّي. في السنوات اللاحقة لرحيله، أقيم لأعماله معرضان استعاديّان في بيروت، كما نظّم كلود لومان، صاحب «غاليري كلود لومان» الباريسيّة، معرضاً شاملاً في «معهد العالم العربي» في العام 2011، وكان قد أقام له أيضاً معرضاً عنوانه «شفيق عبود في المجموعات الأوروبية الخاصّة» ضمّ نماذج مختارة من نتاجه وغطّى المراحل الأساسية التي قطعها منذ بداياته عند نهاية الخمسينات وحتى وفاته. وعن «غاليري كلود لومان» أيضاً، بالاشتراك مع منشورات «كْلِيا» الفرنسية، صدر كتاب فخم يحتوي على صور بالألوان لبعض أعمال الفنان، وتلقي الضوء على أبرز المحطّات التي مرّت بها تجربته الفنية. يحتوي الكتاب، بالإضافة إلى الصور، نصوصاً لكلّ من شفيق عبود، كريستين عبود، ليديا هارامبور، صوفي كريبس، كلود لومان وكاتب هذه السطور. كما صدر عن الدار نفسها أوّل كتالوغ لعبّود، تبعه كتالوغ آخر عن دار «سكيرا» التي تُعنى بكتب الفنّ وكتالوغات المعارض والمتاحف الكبرى. مع ذلك، تبقى قليلةً الإصدارات التي تناولت تجربة عبّود الفنّية بالمقارنة مع ما يصدر من كتب وكتالوغات في الغرب. وهذه الحال، تختصر وضع نسبة كبيرة من الفنّانين اللبنانيين والعرب، بمن فيهم أولئك الذين أقاموا في دول غربيّة وعرضوا أعمالهم فيها.

تقتضي الإشارة أخيراً إلى أنّ «غاليري كلود لومان» تستعدّ الآن لإقامة معرض فنّي في باريس يحتوي على لوحات فنّية لقرابة أربعين فنّاناً من العالم العربي. وقد رُسمت أعمالهم خصوصاً بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى لصدور كتاب «النبي» لجبران خليل جبران.


MISS 3