ستيفن سبيلبرغ...لم ينتهِ بعد

02 : 05

حين كان ستيفن سبيلبرغ في السادسة عشرة من عمره، اكتشف أن والدته تخون والده. كان يشارك حينها في رحلة تخييم مع شقيقاته الثلاث الأصغر منه، ووالده أرنولد، ووالدته ليا، وبيرني، صديق أرنولد المقرّب. كان سبيلبرغ يعشق صناعة الأفلام منذ سن المراهقة، فصوّر كل شيء على كاميرا من طراز «سوبر 8». التقطت الكاميرا لحظة تقارب بين ليا وبيرني. تلك اللحظة غيّرت حياته بالكامل. هو يتذكر هذه الحادثة قائلاً: «الأمر الغريب هو أنني شاهدتُ كل شيء بأم عينيّ، لكني لم أصدق ما يحصل إلا بعدما رأيتُ اللقطة لاحقاً على آلة المونتاج التي أملكها».

تزوجت والدة سبيلبرغ من بيرني بعد فترة قصيرة، وفضّل أرنولد تلقي اللوم على الطلاق لحماية حق ليا بحضانة أولادها. هذا الفعل النبيل جعله يبتعد عن ابنه لسنوات عدة. يتكرر هذا الموضوع في عدد كبير من أفلام سبيلبرغ.



سبيلبرغ بموقع تصوير Close Encounters of the Third Kind عام 1977


يقول ستيفن: «أدركتُ قوة السينما منذ عمر مبكر. أول فيلم قمتُ به غيّر علاقتي مع والديّ، لا سيما والدتي. هكذا اكتشفتُ العلاقة التي كانت تعيشها. في المرحلة اللاحقة، لم أعد أنظر إليها كأم بل كإنسانة تحمل جميع نقاط الضعف التي أجدها في نفسي. حبذا لو احتفظتُ بنظرتي إليها كأم لعشر سنوات إضافية، لكنّ ذلك السر قرّب المسافة بيننا. كنت قريباً من والدتي بقدر أي شخص آخر».

يبلغ سبيلبرغ اليوم 76 عاماً، ولا يزال يُعتبر عرّاباً للسينما المعاصرة، إلى جانب صديقَيه القديمين مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا.

كان فيلم The Fabelmans (عائلة فابلمان) العمل الثالث والثلاثين في مسيرة سبيلبرغ، وقد حصد سبعة ترشيحات لجوائز الأوسكار ويتمحور حول طفولته. هو يقول إن جميع أفلامه تحمل عبرة معينة. قد تتغير الأسماء، لكن تبقى الشخصيات حقيقية. يحمل سبيلبرغ الصغير في الفيلم اسم «سامي»، وهو يصوّر مثل سبيلبرغ فيلماً عن الحرب مع رفاقه.

يقول سبيلبرغ مبتسماً: «كانت والدتي تسألني: «متى ستروي قصتنا؟ لقد أعطيتُك تفاصيل كثيرة»! لم أكن أخطط يوماً لتقديم سيرة ذاتية لأنني لم أتكل على أي خطط مدروسة على مر مسيرتي. لكن لطالما وجدتُ صعوبة في التكلم علناً عن المواضيع التي أتطرق إليها في أوساطي الخاصة. عندما لم أجد ما أفعله خلال أزمة «كوفيد»، بدا لي الوقت مناسباً لجمع الذكريات. كنتُ قد خسرتُ أمي للتو أيضاً».

توفيت ليا في العام 2017، وأرنولد في العام 2020. هما تطلقا في العام 1966، ما أدى إلى تحطيم ابنهما. لا يزال الماضي حياً في ذاكرته. يقول المخرج إن والده كان يتردد في الكشف عن هذه القصص علناً، لكنه عاش أكبر قدر من الألم. يأسف سبيلبرغ حتى الآن على التضحية التي قدّمها والده، وهو يتأثر بكل وضوح حين يقول إن شقيقاته اعتبرن فيلم The Fabelmans تكريماً لأهلهم. هو يعترف بأن توتره بلغ ذروته حين عرض الفيلم أمام شقيقاته آني وسوزي ونانسي.

تشمل أفــــــــــــــــــــــــلام E.T، و Close Encounters of the Third Kind(مقابلات قريبة من النوع الثالث)، وWar of the Worlds (حرب العوالم)، و Catch Me If You Can(أمسكني إذا استطعت)، و Empire of the Sun (إمبراطورية الشمس)، أولاداً من عائلات مفككة. وحتى فيلم Saving Private Ryan (إنقاذ الجندي ريان) يتمحور حول لمّ شمل عائلة.

يقول سبيلبرغ: «كل شيء موجود في أعمالي. ما كان يمكن أن أكون أوضح من ذلك. لا أظن أنني قدمتُ فيلماً لا يتطرق إلى مسائل معقدة من الهوية». هل يظن أن الناس أغفلت عن هذا النوع من الرسائل؟ يجيب قائلاً: «لم أفكر يوماً بأنهم يهتمون بحياتي لأنهم أكثر اهتماماً بالقصص التي أقدمها».

هل كانت صناعة الأفلام الأداة التي يلجأ إليها لفرض سيطرته على حياة العائلات الخيالية في قصصه بطريقة عجز عنها في طفولته؟ يجيب سبيلبرغ: «صناعة الأفلام تمنحنا شعوراً مزيفاً بالأمان وتقنعنا بأننا نسيطر على كل شيء. لكنّ أحداً لا يملك سيطرة مطلقة».



خلال الحملة الترويجية لفيلم ET عام 1982


قوة السينما

فيلم Lawrence of Arabia (لورانس العرب) للمخرج ديفيد ليان هو المفضل لدى سبيلبرغ. هو شاهده حين كان في سن المراهقة وكاد يستسلم منذ مرحلة مبكرة لأنه ظن أنه لا يستطيع تقديم عمل بهذا المستوى يوماً، لكنه يضيف قائلاً: «أنا لم أقدم حتى الآن فيلماً بمستواه أصلاً! لكني شعرتُ بأنني جيد بما يكفي بعد فيلم Jaws (الفك المفترس) على الأرجح (فيلم عن هجوم أسماك القرش حقق نجاحاً مبهراً في العام 1975). هذا العمل جعلني أدرك الأثر الذي تتركه الأفلام لدى المشاهدين».

هو لا يتخلى عن هذا الفيلم ويعيد مشاهدته سنوياً. لكن ما هي الأفلام التي يقترح على الناس مشاهدتها كل سنة من بين أعماله؟ هو يعجز عن الإجابة على هذا السؤال لكنه يضيف: «أحياناً، أتمنى أن أشاهد فيلم E.T. من منظور شخصٍ لم يشاهده يوماً، لكن لا يمكن أن يحصل ذلك». هذا الأمر يحزنه بكل وضوح.

لم يكن فيلم ديفيد ليان مجرّد عمل مبهر على مستوى المؤثرات البصرية بالنسبة إلى سبيلبرغ. هو يتكلم عن المشهد الذي ترك فيه أثراً عميقاً، حين يصل «لورانس» إلى القناة ويصرخ الضابط البريطاني في وجهه: «من أنت»؟ بقي ذلك المشهد عالقاً في ذاكرته وقد فكّر به في جميع الأفلام التي قدّمها.

يقول سبيلبرغ بكل حماس: «ينتقل الفيلم في مرحلة معينة إلى المشهد الذي يُركّز على وجه «لورانس» وهو يسمع السؤال الذي يشغله منذ فترة لكنه يعجز عن الإجابة عنه. هذا ما نفعله حين نصنع الأفلام. نحن نقف أحياناً على الجانب الآخر من القناة ونصرخ بكل قوة: من أنا؟ جميع أنواع الفنون متشابهة. يطرح كل فيلم أخرجتُه هذا السؤال: من أنا؟».



مع توم كروز خلال تصوير War of the Worlds


لتلقي جواب مباشر على هذا السؤال، يمكننا أن نشاهد الآن فيلم The Fabelmans الذي شارك سبيلبرغ في كتابته إلى جانب توني كوشنر، بتشجيع من زوجته كيت كابشو. بفضل هذا الفيلم، سنعرف أن والدة سبيلبرغ جلبت إلى المنزل قرداً ضالاً في أحد الأيام. وسنعرف أيضاً أن أول فيلم صوّره شمل تحطيم مجموعة من القطارات، وأن ستيفن الشاب تعرّض للتنمر حين كان في المدرسة الثانوية. كانت معظم الأجواء حينها معادية للسامية، لكنه بدا فتىً غريباً ومعتاداً على تصوير كل شيء. اتضحت هذه النزعة لديه خلال الستينات، مع أنه لم يفتقر يوماً إلى الثقة بالنفس. كان يمضي عطلة نهاية الأسبوع مع زملائه وينشغل بأفلامه القصيرة.

يعترف سبيلبرغ بأنه لم يكن من أصحاب الشعبية في المدرسة، لكن حتى الأولاد الذين لم يُعجَبوا به كانوا يحبون صناعة الأفلام. بعبارة أخرى، كانت الكاميرا السبب في زيادة شعبيته في المدرسة، وما كان ليحصل على أي فرصة من دونها كما يقول.

لكنّ عالم الأفلام أصبح مختلفاً جداً اليوم. لا يقتصر هذا الاختلاف على طريقة صناعة الأفلام واتكال المخرجين الجدد على أجهزة «آيفون» للتصوير، بل يتعلق أيضاً بنظرة المشاهدين إلى الأفلام. لم يعد أحد يقدم أفلاماً بمستوى أعمال سبيلبرغ اليوم، لا سيما لفئة الأطفال. تستهدف الأفلام المعاصرة المراهقين وتعج بالأضواء، والصور المنشأة بالحاسوب، ومشاهد الحركة. كان سبيلبرغ يثق مثلاً بأن الناس يستطيعون التركيز على ما يشاهدونه لمدة طويلة، علماً أن أول 45 دقيقة من فيلم Jurassic Park تخلو من أحداث حقيقية. لكن تحمل هوليوود اليوم رأياً مختلفاً.

يضيف سبيلبرغ: «يستطيع الأطفال التركيز على ما يشاهدونه اليوم شرط أن يقرروا خوض هذه التجربة. أعرف أن المنافسة اشتدت في عالم السينما الآن. لكن لا يتحلى الأولاد راهناً بالصبر الذي تميّز به أبناء جيلي. هم لا يحبذون تمضية وقت هادئ وتأملي بعيداً عن النشاطات الصاخبة. هذا هو العامل الناقص اليوم: الصبر. لكن سيختلف الوضع إذا اقتنع الآخرون بمشاهدة عمل معيّن».


رســـــالـــــة مُـــــعـــــبّـــــرة

تَجدّد الكلام في نهاية المقابلة عن قوة السينما. بالإضافة إلى التوتر الذي شعر به سبيلبرغ حين عرض فيلم The Fabelmans أمام شقيقاته، هو يعترف بأنه كان متوتراً أيضاً عند عرض فيلم Schindler’s List (قائمة شيندلر). هو كرّس هذا العمل لضحايا محرقة اليهود، ويقول إنه احتاج إلى دعم اليهود الذين نجوا من تلك الكارثة.

إنه أهم فيلم في مسيرته، لكنه يشعر بقلق غير مسبوق من موضوع معاداة السامية. أضيفت النهاية لاحقاً، حيث يزور الناجون مقبرة «شيندلر»، الرجل الألماني الذي أنقذ الضحايا، لأن المخرج كان يخشى ألا يصدق الناس القصة التي عرضها.

يوضح سبيلبرغ: «بدأت النزعة إلى إنكار محرقة اليهود تتوسع مجدداً في تلك الفترة، فقررتُ تقديم الفيلم في العام 1993 لهذا السبب بالذات. كانت تلك النهاية إثباتاً على صحة جميع الأحداث الواردة في الفيلم. لم يسبق أن صنعتُ فيلماً يطرح رسالة يحتاج العالم إلى سماعها بهذه الطريقة المباشرة. حمل العمل رسالة محورية تبدو أكثر أهمية اليوم مما كانت عليه في العام 1993، لأن مظاهر معاداة السامية تفاقمت الآن مقارنةً بما كانت عليه حين صنعتُ هذا الفيلم».

قرر سبيلبرغ تقديم فيلم Schindler’s List أيضاً لتكريم والديه والديانة اليهودية في عائلته، علماً أنه حاول تجنّب إظهارها حين كان في سن المراهقة. على غرار جميع أعماله، يهدف هذا الفيلم إلى إيجاد جواب على سؤال «من أنا؟». لكن يبقى فيلم The Fabelmans أبرز مشروع يتطرق إلى هذه المسألة في مسيرة المخرج الأسطوري. هو ينتهي بمشهد عظيم حيث يقدم المخرج سريع الانفعال، جون فورد، نصيحة مهنية إلى سبيلبرغ خلال الستينات.

يضحك المخرج حين يسترجع تلك الذكرى. تتعدد الأحداث التي تشتق منها أفكاره أصلاً. هو لم يُعجَب مثلاً بفيلم The Shining (الساطع) عندما شاهده للمرة الأولى، وقد انزعج مخرج العمل ستانلي كوبريك من هذا الرأي حينها. لكن ما هي النصيحة التي يريد سبيلبرغ تقديمها إلى المخرجين المبتدئين اليوم انطلاقاً من تأثّره الفائق ببطله جون فورد؟

هو يجيب بلا تردد: «يجب أن يسردوا قصصاً تثير اهتمامهم بدل أن يعرضوا قصصاً تهمّ الآخرين». يؤكد المخرج الشهير في النهاية على أن مسيرته لم تنتهِ بعد، فيقول بكل حماس: «أهم ما في الأمر هو الانتقال إلى مشروع جديد. لا شيء أهم من المضي قدماً».


MISS 3