عيسى مخلوف

أسئلة المثقّف العربي بين الشرق والغرب

26 آب 2023

02 : 00

لوحة للفنّان الفرنسي جورج بْراك

لا يزال السؤال يُطرَح اليوم، كما كانت الحال في القرن التاسع عشر، حول العلاقة بين الغرب والشرق، وحول نظرة الشرق إلى نفسه. وهذا ما تطرّق إلى دراسته عدد من الكتّاب والمفكّرين الذي تابعوا دروسهم في الغرب، ومنهم من درَّس في جامعاته، وتسنّى له التعرّف على الحضارات الغربية والشرقيّة، ورصد التناقضات العميقة التي تفصل بين المجتمعات التقليديّة والحديثة، وكذلك نظرة الغرب إلى العالم العربي، ومن هؤلاء على سبيل المثال المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد.

في كتاب «الاستشراق» الذي فتح سجالاً لم ينته بعد، ينطلق إدوارد سعيد من السؤال الآتي: للغرب خطابه الخاصّ حول الشرق، خطاب لا يوجد فيه الشرق على حقيقته، فمن أين يأتي هذا الخطاب إذاً، وكيف يمكن استمراره المدهش عبر العصور والإيديولوجيات المختلفة؟ يتناول سعيد في دراسته مفهوم الاستشراق مجالَي السياسة والأدب، وقصص الرحلات والعلوم، وكذلك وسائل الإعلام، ويلاحظ أنّ ما نتعلّمه منها بخصوص الشرق أقلّ بكثير ممّا نتعلّمه بخصوص الغرب. وهذا يعني أنّ صورة الآخر هنا، هي صورة مشوّشة، لأنها متخيّلة ووليدة مصالح وأفكار مسبقة واستيهامات تتجاوز الواقع. ويؤكّد إدوارد سعيد أنّ إيديولوجيّة الاستشراق لم تبدأ مع مرحلة الاستعمار، بل هي سبقت هذه المرحلة بزمن طويل، كما سبقت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت أواخر القرن الثامن عشر.

وفي النظر إلى الاحتكاك الغربيّ الشرقيّ، صدرت دراسات كثيرة لمفكرين من العالمين العربي والإسلامي ركّزت على جوانب مختلفة من الموضوع، كما الحال مع المفكّر الإيراني داريوش شايغان، خصوصاً في كتابه «النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا». لقد لاحظ المؤلّف، بعد إقامته الطويلة بين الشرق والغرب، أنّ المشكلة الأساسيّة التي تعاني منها المجتمعات الشرقية، ومنها الدول الإسلامية والهند، هي مشكلة ثقافية في الدرجة الأولى. ثمّة نسبة كبيرة من المثقفين حاولت تفسير أسباب تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية، وتحدّثت عن الاستعمار والإمبريالية، غير أنّها لم تتوقّف كما ينبغي عند موضوع الحداثة. صحيح أنّ الشرق يملك حضارات عريقة موغلة في القدم، لكنه لم يسهم في التطوّر التقني والعلمي الذي عرفه الغرب منذ القرن السادس عشر وأدّى إلى انقلابات جذرية في مفاهيمه الثقافية.

من هنا، استتبعَت دراسةُ العلاقة بين الشرق والغرب الحديثَ عن المثقّف ودوره في مجال النقد والتوعية، هذا الدور الذي من شأنه أن يساهم في التطوّر السياسيّ والاجتماعيّ. في هذا المجال، اعتبر إدوارد سعيد أنّ المثقف الحقّ هو الذي يستطيع التعبير جهراً عن آرائه في وجه من هم في مراكز السلطة والنفوذ. في كتابه «صور المثقف»، يلاحظ سعيد كيف أنّ «المجتمع اليوم يحاصر الكاتب ويطوّقه بالجوائز والمكافآت حيناً، وحيناً آخر بالاستخفاف والاستهزاء بالعمل الفكريّ ككلّ، وفي الأغلب الأَعمّ، من خلال القول إنّ المثقف الحقيقي ينبغي أن يكون محترفاً ومُقنعاً في مجال تخصّصه ليس إلاّ». ولا يغفل المؤلّف الإشارة إلى الخطر الذي يتهدّد المثقّف المُصِرّ على إيصال مواقفه والدفاع عنها في الدول التي لا اعتبار فيها لحقّ الاختلاف ولحرية الرأي والتعبير.

في هذا السياق، درس المؤرّخ والمفكّر الفلسطيني هشام شرابي الذي تخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت وعمل أستاذاً في جامعة جورجتاون في واشنطن، التغيّرات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي وفلسطين في النصف الأخير من القرن العشرين، ولقد رصد في كتابه «أزمة المثقفين العرب» الدورَ المَنوط بالمثقف، والذي لا يستقيم، بحسب رأيه، في غياب المعرفة والفكر النقديّ. بخلاف ذلك، «يبقى نصوصاً إنشائيّة وشعارات مجرّدة». ويضيف في هذا الصدد: «بما أنّ «الثقافة البطركيّة لا تعرف القراءة، فإنّ كلامنا لن يُقرأ. لكنه قد يصل بطريقة أو بأخرى إلى سمع البطاركة الذين لا يقرأون، وسيُنقَل مشوّهاً بالطريقة نفسها التي يُنقل فيها الفكر عادةً في المجتمعات البطركيّة: عن طريق الأحاديث في الدواوين والمقاهي، حيث يصبح الفكر سرداً، ويُروى كما تُروى القصص والحكايات والأساطير».


MISS 3