بدءاً من 4 أيلول، حين يصبح قانون روسي جديد ساري المفعول، يجازف المستثمرون من دول "غير صديقة" بخسارة أصولهم الروسية لمنحها إلى شركائهم الروس. يضمن هذا التشريع إخافة الشركات الغربية الناشطة في روسيا، لكن سبق وانتشر الرعب في هذه الأوساط أصلاً. قد يكون هذا التشريع إنذاراً للحكومات الغربية حول إمكانية أن يعاقب الكرملين الشركات الغربية التي تتابع نشاطها في روسيا، من دون أن تتمكن تلك الحكومات من التحرك لتغيير الوضع إلا إذا قررت الرضوخ لمطالب موسكو.
وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 4 آب، على القانون الجديد الذي يحمل عنواناً طويلاً ومملاً: "حول خصائص تنظيم العلاقات المؤسسية في الشركات ذات الأهمية الاقتصادية". وسط سيل الأخبار الأخرى الصادرة من روسيا، بما في ذلك موت يفغيني بريغوجين وزيادة أعداد الطائرات المسيّرة الغامضة التي تستهدف موسكو، لم يتنبه معظم الناس إلى هذا القانون، باستثناء الشركات الدولية المتبقية في روسيا لأن القانون موجّه ضدهم.
تعليقاً على إقرار القانون، كتب روبرت برادشو وآنا كورشونوفا منذ أيام: "يمنع هذا القانون الشركات القابضة الأجنبية المرتبطة ببلدان "غير صديقة" من استعمال حقوقها في تعاملها مع الشركات الروسية الكبرى. سيتمكن المساهمون الروس غير المباشرين أو أصحاب تلك الشركات من تقديم طلب لدى محكمة روسية لإقصاء المستثمرين الأجانب من سلسلة الملكية، ما يعني نقل الأسهم الأجنبية إليهم".
بعدما يصبح القانون ساري المفعول، سيواجه المستثمرون من البلدان التي فرضت عقوبات على روسيا بسبب حرب أوكرانيا هذا الواقع الشائك، بما في ذلك أستراليا، وبريطانيا، وكندا، وأعضاء الاتحاد الأوروبي، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وسويسرا، والولايات المتحدة، وتايوان. إذا أراد المساهمون في شركة روسية التخلص منك إذاً أو رغبوا في الحصول على حصتك في الشركة بكل بساطة، يسمح لهم القانون الجديد بتقديم طلب إلى الحكومة لتنفيذ هذه السرقة التي يسمح بها القانون. يكفي أن يقدموا طلباً لدى محكمة معينة في موسكو ويذكروا فيه أنك تعيق عمليات الشركة. ستضعك المحكمة حينها على اللائحة السوداء، ما يسمح لشركائك بالاستيلاء على حصتك.
في هذا السياق، تقول محامِيَتا شركة المحاماة الأميركية "مورغان لويس"، فاسيليزا ستريز وفالنتينا سيمينيخينا: "لا يُسمَح لغير الروس بالقيام بالمثل". لن يخسر المالكون الغربيون أملاكهم فحسب، بل سيُمنَعون أيضاً من بيع حصتهم إلى كيان آخر بعد إضافة أسمائهم إلى قائمة المحكمة ويخسرون حقهم بالتصويت، حتى أنهم لن يتمكنوا من المشاركة في اجتماعات أصحاب الأسهم. قد يستهدف القانون "المنظمات ذات الأهمية الاقتصادية"، لكن يبقى هذا المعيار منخفضاً جداً: يغطي القانون الكيانات الغربية التي تملك حصة تفوق نسبتها الخمسين بالمئة في شركات تُحقق عائدات سنوية بقيمة 75 مليون روبل على الأقل (نحو 782 مليون دولار)، أو تشمل 4 آلاف موظف وما فوق.
يبدو هذا القانون دعوة إلى الأقلية الروسية التي تملك الشركات للتخلص من الأغلبية الغربية والاستفادة من حصصها. لم يكن هذا التشريع أصلاً التحرك التجاري الوحيد الذي اتخذه الكرملين ضد الشركات الغربية في الأشهر الأخيرة. في شهر نيسان الماضي، وقّع بوتين أيضاً على مرسوم يسمح للحكومة بمصادرة العمليات الروسية التي تنفذها شركة الطاقة الألمانية "يونيبر" وشركة الطاقة الفنلندية "فورتوم".
بعد مرور ثلاثة أشهر، استولى الكرملين أيضاً على العمليات الروسية الخاصة بشركة تصنيع الألبان الفرنسية "دانون" وشركة البيرة الدنماركية "كارلسبيرغ". عندما منعت الحكومات الغربية استعمال الطائرات المملوكة للغرب من جانب الخطوط الجوية الروسية، صادرتها روسيا كلها وبلغ مجموعها 400 طائرة. حتى أن الكرملين ذهب إلى حد زيادة العوائق أمام الشركات الغربية التي ترغب في مغادرة البلد. في البداية، زادت المعاملات الورقية المطلوبة، ثم اضطرت الشركات المغادِرة لتقديم مبلغ إلزامي يساوي 10% من سعر البيع إلى الخزانة الروسية. في غضون ذلك، يُفترض أن توافق الحكومة على عمليات البيع، ما يُجبِر الشركات على البقاء لفترة أطول مما تريده.
تعليقاً على هذه المسألة، صرّح الرئيس التنفيذي لشركة "فيليب موريس"، جاسيك أولتشاك، لصحيفة "فاينانشل تايمز" في شهر شباط الماضي: "لا أحد يعرف كيف يمكنني أن أحلّ الموضوع". كانت شركتا "دانون" و"كارلسبيرغ" تحاولان المغادرة في الوقت نفسه ثم اكتشفتا مصادرة أصولهما. بدا وكأن بوتين يستمتع بتصعيب حياة أصحاب الشركات الغربية لدرجة أن يدفعهم إلى المغادرة، ثم يستمتع مجدداً بإعاقة تلك الجهود. لا عجب في أن تحتل روسيا المرتبة الأولى راهناً على قائمة البلدان التي تواجه فيها الشركات أكبر الخسائر المرتبطة بالأوضاع السياسية. يقول رينيه نايبرغ، السفير الفنلندي السابق في روسيا: "بدأ الوضع يشبه ما فعله البلاشفة. إنها خطوة باتجاه التأميم، فهي تجبر الشركات على بيع أصولها بسعر منخفض"... أو مقابل لا شيء!
في الشهر الماضي، طرحت الحكومة الروسية اقتراحاً يُمكّن الشركات الغربية في روسيا من استرجاع أصولها مقابل أن تستعيد الكيانات الروسية أصولها المجمدة من الحكومات الغربية. أوضح الكرملين بهذه الطريقة الهدف الحقيقي من مضايقاته للشركات الغربية: هو يدرك أنه جعل روسيا وجهة غير جاذبة بأي شكل للشركات الغربية، وهذا ما يدفعه إلى استعمال مآسيها لإبلاغ الحكومات الغربية بأن شركاتها في روسيا يُفترض أن تتوقع خسائر وأزمات إضافية إذا لم تنحسر العقوبات. هكذا كان الكرملين رائداً في تطبيق دبلوماسية استعمال الشركات كرهينة.
إنها مقاربة مؤثرة لأن العولمة، التي أنتجت عالماً يستطيع فيه عدد هائل من الغربيين العيش في بلدان تقع خارج أسوار أوروبا الغربية وأميركا الشمالية الآمنة (بالإضافة إلى اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا)، فتحت المجال أيضاً على نشوء أسواق جديدة، ومثيرة للاهتمام، ومربحة، وأقل استقراراً بالنسبة إلى شركات كثيرة.
يشمل بيان صحفي أصدرته شركة BP في العام 2011 لمحة عن حقيقة ذلك العالم. كانت شركة الطاقة البريطانية العملاقة تعلن في بيانها عن تحالف استراتيجي جديد مع شركة النفط المملوكة للدولة الروسية "روسنفت"، ما يُمكّن الشركتَين من التنقيب عن النفط في الجرف القاري الروسي في القطب الشمالي. أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي، إيغور سيتشين، في البيان الصحفي: "من الواضح أن الرساميل العالمية والشركات الروسية أصبحت جاهزة للاستثمار في مشاريع رفيعة المستوى في روسيا. وبدأت الشركات الروسية تحتل مرتبة متقدمة في قطاع الطاقة العالمي". في المقابل، أوضح الرئيس التنفيذي لشركة BP، بوب دادلي، أن "هذا الاتفاق الفريد من نوعه يشدد على روابطنا الاستراتيجية القديمة والعميقة مع أكبر دولة مُنتِجة للهيدروكربون في العالم". في العام 2021، بلغ عدد الشركات الأجنبية الناشطة في روسيا 48216.
بعد ثلاثة أيام على بدء غزو أوكرانيا، أعلنت شركة BP عن مغادرتها روسيا وتكبدت خسائر بقيمة 25 مليار دولار. لكنها نجحت في الرحيل على الأقل لأنها تحركت بسرعة كافية. اليوم، يواجه عدد كبير من الرؤساء التنفيذيين مشكلة مشابهة لأزمة أولتشاك، ومن المنتظر أن تتعامل شركات أخرى كثيرة مع المشكلة نفسها بدءاً من 4 أيلول.
حين زار الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ألمانيا الشرقية بمناسبة ذكرى تأسيسها الأربعين في العام 1989، سأله أحد المراسلين عن خطورة الوضع في البلد، فأجاب: "أظن أن المخاطر تنتظر من لا يتفاعل مع الحياة بكل بساطة". بقيت شركات غربية كثيرة في روسيا بعد بدء الغزو ضد أوكرانيا لأنها أرادت إنهاء أعمالها، أو إيجاد عملاء مناسبين، أو فرص عمل جديدة لموظفيها. لكنها لم تتفاعل مع التطورات بالشكل المناسب. بدءاً من 4 أيلول، ستتأثر أعداد متزايدة من تلك الشركات بضربة الكرملين الجديدة، ومن المتوقع أن يبتكر الكرملين أنواعاً أخرى من هذه التدابير الصارمة.
ربما تبدو الظروف قاتمة اليوم بالنسبة إلى الشركات الغربية العالقة في روسيا وقد تزداد سوءاً مع مرور الوقت، ومع ذلك قد تخسر روسيا في نهاية المطاف. يقول نايبرغ: "يجب أن يدرك الروس أن هذه القرارات ستترافق مع عواقب وخيمة لسنوات طويلة. ستنتهي الحرب يوماً، لكن هل يمكن أن يفكر أحد بالاستثمار في روسيا لاحقاً؟ ستستثمر الشركات الغربية في أوكرانيا".