د. فادي كرم

حوار ما قبل الدستور

الحوار من أكثر أساليب التواصل رُقياً وتبادلاً للكلام والأفكار بين طرفين أو أكثر، وله فنّه ومهاراته وفلسفاته وصولاً إلى الخواتيم المُشتركة التي تصبّ في المصلحة العامة وتُبعد شبح الانتصارات الظرفية من قبل فريق على آخر. وإن انعقد الحوار لأجل الوطن، فمنعاً للاستنساب وجَبَ إخضاعه لمعايير الدستور الوطني، كونه الساحة الجامعة لكافة الفئات المُكوّنة للوطن، ولأنه يُشكّل الخط الفاصل الفعلي بين المتناقضين والمُتباينين، والمُسقِط للصراعات الفئوية المُفتّتة للعقد الوطني الحاضن للمجتمع وخط الدفاع بوجه المشاريع المُفرِّقة لاطراف الوطن الواحد.

إلّا إذا كان هدف الحوار المطروح فرض أمر واقع جديد تمهيدي لتغيير الدستور، فينعقد عندها لايجاد تركيبة جديدة للدولة، وهنا يتحوّل التشاطر والتلاعب المتبادل أمراً بديهياً لأجل الفوز بالمكاسب، وحوار كهذا يجري عادة بين فريقين أو بلدين أو شعبين أو بين عدّة مكوناتٍ في بلدٍ واحد تتمايز بانتماءاتها القومية أو الاثنية أو الدينية أو القبائلية، أو الثقافية المختلفة.

الحوار بين أطراف الوطن الواحد يتجرّد من الأهداف الفئوية ويتسلّح بالجهوزية الكاملة والمتبادلة للقبول بشروط المصلحة الوطنية العليا التي تُحدّدها المعايير العلمية ذات الطابع المالي والاستثماري والاجتماعي والسيادي، ومن دون رسم خطوط حمر داخلية وفرض حسابات فئوية تفريقية. ويحتكم الحوار الوطني للدستور الوطني صوناً لمصالح الجميع، أمّا من دون ذلك فيتحوّل الحوار جلسات تسويات بعيدة كل البعد عن مفهومه الحقيقي.

إنّ الدعوات الاخيرة التي تُطلق لأجل عقد حوارات مُفخّخة، ليست الّا محاولات جديدة من محور المُمانعة لتمرير شروطه على الداخل والخارج، واعداً بامكانية فك أسر الدولة اللبنانية، وقد حاول تمريرها سابقاً بطرق ملتوية من خلال مفاوضاتٍ نهارية وليلية وخدماتٍ سلطوية وعينية ومالية، ولكنه لم يُفلح بالحصول عليها بسبب تماسك المُعارضين لمشاريعه.

إنّ ربطَ الدستور وشرطَ اعتماده بانعقاد جلسات حوارية سبعية ليس حواراً، بل هو وجه ناعم من أوجه الضغوطات الأمنية التي تُرافق عادةً طاولات المفاوضات والتسويات بين الافرقاء المُتحاربين، حيث تخيّم على قاعة المفاوضات حسابات الربح والخسارة وأفكار متعدّدة لترجمة معادلات الارض والجبهات على طاولات الاتفاقات والعقود والعهود.

وإذا كانت نيّة الرئيس نبيه برّي الحوارية ايجابية إفساحاً في المجال أمام الممتنعين خلال السنة الاولى من الشغور، لتراجعهم عن قرار التعطيل واقدامهم على خوض المعركة الانتخابية باحترامٍ للدستور وللديمقراطية، فما على الرئيس برّي الا توضيح أمر أساسي جوهري لنجاح المحاولة، وهو الاجابة على التساؤل الذي يأتي على ذهن الكثيرين من الجدّيين والمؤمنين بمفهوم الحوار الحقيقي؛ ما الذي يجمع بين الأطراف المدعوين إلى طاولة الحوار السبعية؟ وهل هناك مساحة واسعة للتفاهم والتلاقي بين هذه الأطراف، ولم يبق الا القليل لوضع نهائياته السعيدة بشكلٍ آو آخر؟؟؟

وإن كان هذا ما يراه الرئيس برّي فهل يُبشّرنا بأنّ بعد شهرٍ شهِد فيه الشعب اللبناني حادثتين خطيرتين، الأولى كانت جريمةً منظّمة من قبل الذراع العسكري والأمني لمحوره المُمانع، والثانية كانت تعدّياً مسلّحاً من ذات الطرف ضد الاهالي، بأنّ هناك امكانية لحوار مُنتج قبل كشف حقائق الجريمتين والتعاطي مع التحقيق بجدّية وباحترام للقوانين؟

ما هي الأمور والشؤون التي تجمع المقلبين؟ فهل التحقيق بجريمة العصر، انفجار المرفأ الناتج عن تخزين محور المُمانعة متفجّراتٍ يحتاجها في حروبه الارهابية والاقليمية تجمعه مع الطرف الاخر المُصرّ على التمسّك بكشف الحقيقة؟ وهل ملفّ ضبط الحدود والمعابر الشرعية الفالتة والمعابر غير الشرعية المفتوحة والمزدهرة يجمع بين المقلبين والمنهجيتين؟ أو هل النظرة لدور الجيش الوطني وقوى حفظ الامن الاممية تجمع بين المقلبين والثقافتين؟ وماذا عن السلاح غير الشرعي والدويلة الايديولوجية وارتباطها بالحسابات الاقليمية؟ هل حوار السبعة أيام سيجد قواسم مشتركة لهذه الملفّات؟ وهل هناك اسم مرشّح رئاسي يجمع بين المقلبين والفكرين؟؟؟

الحوار الوطني، إمّا ينعقد للبحث في العمق وللنقاش في المسائل الأساسية، حيث يطرح كل طرف تصوّره للتركيبة الجديدة وللتسوية الوطنية وللاستقرار السياسي الذي يقود البلاد إلى الاستقرار المالي والاجتماعي والامني، وإمّا فالعقلية الداعية له تسووية، ومصير حواراتها الفشل والتدمير للصيغة وللعيش الانساني الطبيعي، وهي المقتل الحقيقي للحوار الوطني المطلوب.

الرئاسة ليست مفصولة عن المشاكل والملفّات المتنازع حولها في العمق، هذا ان اردنا رئاسة فعلية للبلاد، أمّا بحال كان هدف الحوار المزمع إقامته تعيين رئيس صوريّ وتجريده من فعاليته القيادية، فهذا يعني أنّ الهدف من الدعوة هو السبب الاهم لانعقاد الحوار ولتلبية البعض للنداء.

إنّ القاعدة المعوجّة تجعل المُستقيم معوجّاً، وإنّ القيادي الحقيقي هو الذي يُغير الانظمة المعوجّة لتتلاءم مع الاستقامة، فلا جدوى من الحوار طالما أنّهم لا يؤمنون بما نؤمن به.