مصطفى علوش

بين عزّ الاستقالة وذلّ "ما خلّونا"!

«الثوري النوري الكلمنجي

هلاب الدين الشفطنجي

قاعد بالصف الأكلنجي

شكلاطة وكراميلا

يتمركس بعض الأيام

ويتمسلم بعض الأيام

ويصاحب كل الحكام

وبستعشر ملة»

(أحمد فؤاد نجم)

ما زلت حتى اليوم أتذكر أستاذي في الطب النفسي في الجامعة الأميركية يوم الامتحان. كان بعض الزملاء يغشون في الامتحان، وهذا يعني رفع المعدل وبالتالي فإنّ البعض سيتأثر ويرسب. ذهبت خلال الامتحان أشتكي له، شارحاً ما يحصل. قال لي إنه يعلم بكل ذلك، ثم أردف «لمَ لا تفعل مثلهم» فقلت باستغراب إنني لا أريد أن أنجح بالغش، فقال لي «إنّ للنزاهة والفضيلة ثمناً». ذهبت وأكملت الامتحان، ولم أفهم مغزى كلامه إلا لسنوات لاحقة عندما قلت لإبني «الأفضل أن ترسب بامتحان البريفيه على أن تغش»!

لا يوجد في العالم من هو أقوى ممن لا يريد شيئاً لنفسه، أي من لا تغريه المكاسب ولا ترهبه الخسائر. وهنا لا أتحدث عن طوباوية وتنسك، فالأمر مرتبط بوسط ذهبي تحدث عنه أرسطو منذ أربعة وعشرين قرناً من الزمن. فأرسطو لم يكن مقتنعاً بالكامل بطرح أفلاطون، أستاذه، بعالم المثل العليا. أي أن السعي إلى المثاليات المكتملة، كما أراد أفلاطون، والتي لا تشوبها شائبة، قد يكون موجوداً فقط في عالم نظري موجود فقط في المخيلة، ولا يمكن الاستناد إليه في الحياة اليومية.

لكن السعي إلى أفضل النتائج هو دائماً مرهون بشيئين عمليين. الأول هو تحديد الهدف من السعي، والثاني هو تحقيقه بناءً على الظروف المرتبطة بالزمان والمكان، أي المعطيات الحاضرة خارج عالم المثل. وسط أرسطو الذهبي استنسابي بشكل أكيد، ويستند إلى أن أي خيار في السعي لهدف ما يقع دائماً بين قطبين متناقضين من الخيارات. أما الوسط الذهبي فهو لا يعني الوسطية، أي اختيار الرمادي بين الأبيض والأسود، بل هو ما يتناسب مع كل حال على حدة. مثَل أرسطو هو أن الإسراف في صرف الثروة قد يكون تبذيراً، أما الإقلال فقد يكون بخلاً، الوسط الذهبي هو الكرم. كذلك فإنّ تجنب المواجهة قد يسمى جبناً، والسعي الدائم إليها قد يسمى تهوراً، أما الوسط الذهبي فهو الشجاعة.

كلامي هذا مرتبط بواقع الحال في السياسة ومن ضمنها تنطح معظم السياسيين للدفاع عن تلّون مواقفهم بالواقعية السياسية، التي قد تستند في معظم الأحيان إلى الهدف الشخصي الذي حدده لنفسه كل واحد منهم. وبعد التمحيص وجدت أنه، إلا في حالات نادرة جداً، يكون الهدف هو الوصول إلى أعلى موقع مسموح به حسب التوزيع الطائفي للمواقع، أو الحفاظ على موقع ورثوه أو وصلوا إليه، بطريقة من الطرق، إلى أقصى مدة ممكنة، أو الحفاظ على مكاسب مرتبطة بالموقع من خلال الكسب الحرام!

والحرام هنا متحرر من المعنى الديني، لأنّ البعض يجدون المسوغات الدينية للفساد والفاسدين، أو لتغطية الفساد وحماية الذات من الانكشاف، حال فقدان السلطة. هذا بالضبط ما يسمونه بالوسط الذهبي الاستنسابي، أو الواقعية السياسية، طالما أن الهدف هو ما ذكرته. أما عن الوسائل الواقعية للوصول أو الحفاظ على الموقع، فحدث ولا حرج، فالفساد لا يغطيه إلا التمادي به، والمخرج الأكثر رواجاً هو الدخول في مغارة علي بابا للانضمام إلى شلة الحرامية التي لا يعرف مدخلها إلا المشارك فيها، حتى يستر البعض منهم البعض الآخر، حتى وإن اختلفوا على تفصيل من التفاصيل. والتفاصيل هنا تتلخص في كل ما أفلس البلد وأفلس المالية وخرّب الكهرباء والنظام التعليمي والأمني والإداري وجعل من النزاهة غباءً والالتزام بثوابت الحلال والحرام استثناءً، لا بل وباءً قاتلًا وجب تطهيره، حتى لا ينفضح موقع المغارة وشلة المشاركين.

لم يقل أبداً أرسطو، الواقعي، إنّ عالم المثل مجرد غباء، بل اعتبر أنه من الواجب السعي إلى أفضل موقع قريب من الفضيلة، والفضيلة في السياسة هي القيام بما هو ضروري للمصلحة العامة، وليس أبداً ما هو خاص ومحصور بالهدف الشخصي. وقد يؤدي الموقف الفضيل إلى خسارة الموقع من أجل الصالح العام، أو من أجل فضح شلة مغارة علي بابا، عسى أن يؤدي ذلك إلى المزيد من ضمان الصالح العام. هذا يعني أنّ الهدف من الوصول إلى موقع الحكم هو ضمان مصالح الرعية وبالتالي فإنّ الوسط الذهبي لا يكون بالوسطية بين الفاسد والمال العام، والقاتل والقتيل، والفلتان والقانون، والسارق والمسروق، والميليشيات والدولة، والطوائف والمواطنة...

بل هو الالتزام بفضيلة الحق في مواجهة الباطل، والحلال في مواجهة الحرام، وكل ذلك حسب القانون المتوافق عليه الذي يجعل من رئيس مثل دونالد ترمب يقف ذليلاً، مثله مثل غيره، أمام المصور ذاته الذي يأخذ صور المغتصبين والسارقين والقتلة وتجار المخدرات. وهنا، قد يقول البعض، وهم على حق، إنّ دونالد ترمب وقع لأنّه خارج السلطة. لكن المؤكد هو أنّه خالف القانون بشكل فاضح ووقع تحت سلطة القانون ذاته الذي جعله رئيساً. فقوة القانون هي أنه الفضيلة المرجعية الوحيدة، عندما يدخل الاستنساب ليدل الناس على وسطهم الذهبي.

أقول هذا وأنا استذكر وزراء عظاماً في حكومة الشباب أيام سليمان فرنجية يوم سموا الشيطان باسمه، واقتنعوا أنّ وسطهم الذهبي الأقرب إلى الفضيلة هو الاستقالة من الحكومة عندما سدت بوجههم السبل لتحقيق الإصلاح، ولم يقولوا «ما خلونا» وهم في أعلى سلطة في الحكم.