مصطفى علوش

التخفّي وراء الرمادية لتمييع المسؤولية

26 أيلول 2023

02 : 00

«مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر

أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر

والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا عَ الحرّ»

(أحمد فؤاد نجم)

في كتاب التكوين مُنح آدم حق تسمية الأشياء بأسمائها كتعبير عن السلطة عليها. على هذا الأساس، استُنتج بأن إجبار الشيطان المتلبس في بشري ما على النطق باسمه خلال رتبة الرقية، ومن ثم مناداته بهذا الاسم، يؤشر إلى أنّه ضعف واعترف بطبيعته، ومن ثم يصبح للراقي سلطة وقدرة لطرده من الجسم المريض. أمّا الذهاب إلى المراوغة والدوران حول الحقائق، فيعني حتماً الوقوع في فخ لعبة يتقنها الشرير، وهي الاختباء وراء الغامض، وبالتالي استمرار اعتلال وتحلل الجسد المسكون بالشر.

بالطبع، لا أريد أن أعطي الانطباع بأني من مؤيدي هذه الطقوس، بالرغم من أنّ الكثيرين مقتنعون بنجاعتها. لكن، في معظم الطقوس والممارسات والأساطير تدخل مسائل مؤنسنة عن طبائع البشر وتصرفاتهم، ومن هنا فإنّ خروجنا من عالم الأساطير، تمنح تسمية الأمور باسمها سلطة وقدرة على تقويمها أو علاجها، أو حتى استئصالها.

في كل مرة تأتي نصائح الأصدقاء على شاكلة أنه على المرء أن يكون «سياسياً»، أي أن يبقى كلامه وتبقى مواقفه في المنطقة الرمادية، أي لا أبيض ولا أسود. قد يكون في ذلك حكمة بعض الأحيان، فالحقيقة دائماً استنسابية، أي أنّه تتم قراءتها من زاوية شخصانية تاريخانية تستند إلى الماضي والحاضر والتطلّع إلى المستقبل عند كل فرد، وأحياناً عند كل جماعة، حتى وإن تناقضت بالكامل مع حقائق أخرى، عند أفراد أو جماعات آخرين.

من هنا، لا يمكن حسم الأمور في ما سيحدث في المستقبل، لكن المؤكد من الماضي هو أنّ التستر على مواقع المرض والخوف من تسميته باسمه، تساعد بالتأكيد على استفحاله وسهولة انتشاره. على هذا الأساس، فإنّ واجب السياسي، ربما أحياناً، تدوير الزوايا وإيجاد وسيلة للتسوية، في منطقة رمادية، بين رأيين أو توجهين أو أكثر، شرط أن يستندا إلى قدر مقبول من المنطق. لكن عندما يكون الركون في المنطقة الرمادية لتفادي تسمية المرض باسمه، أي التعايش مع ما هو عكس المصلحة العامة، فهنا يسقط السياسي ليصبح تاجراً فاسداً يبحث عن الربح الشخصي، أو يتخفى في الرمادية لخوف أو عجز عن تسمية الشيطان باسمه، فيصبح حتماً شريكاً له بناءً على «الساكت عن الحق شيطان أخرس».

لامنا الكثيرون من الأصدقاء على المبالغة في توصيف وجود «حزب الله» كما هو في لبنان، وربما منذ تأسيسه، على كونه احتلالاً إيرانياً. ولو سمع هؤلاء أقوال قادة إيران، ولاية الفقيه، وأقوال قادة «حزب الله» في لبنان، وفهموا أدبياته، لاقتنع معظم ذوي الألباب منهم، بالتوصيف. برأيي إنّ التباطؤ أو التخاذل أو المواربة في توصيف الأمر كما هو بالفعل، ساهمت جميعها في استفحال الشذوذ عن منطق الدولة، وسهلت الثلاثية الرمادية «شعب وجيش ومقاومة» في تسهيل تسلل إيران ولاية الفقيه تحت غطاء شرعي، هو في أحسن الأحوال جهل لحقيقة «الحزب» ودوره، أو تغافل مقصود أملاً في تبدل الأحوال من دون مواجهة خطرة تعرّض من يتجرأ على نعت «الشيطان» باسمه إلى سيل من الشتائم والاتهامات بخدمة مشروع إسرائيل، والذباب الإلكتروني جاهز من دون توجيه من قيادة «الحزب»، إلى حد الاغتيال بفتوى محلية أو عابرة للحدود، طبعاً حسب مقام ودور من يتم اغتياله.

علينا الاعتراف بأن أسلوب ونهج «الحزب» نجحا في تطويع معظم اللبنانيين بإدخالهم في لعبة اللف والدوران حول حقيقة الأمور عن دوره في لبنان، كما في خارجه كفيلق من قوات النخبة في جيش إيران وحرسها الثوري. بدأ الانغماس في اللعبة عشية اغتيال رفيق الحريري حيث أقنع البعض بعضهم في قوى الرابع عشر من آذار بأنه يمكن استدراج «الحزب» إلى الداخل عبر شراكات تقليدية على الطريقة اللبنانية، في الحكم والمغانم. المؤكد هو أنّ معظم من اقتنع بإمكانية الشراكة مع «الحزب» هم من الجاهلين لطبيعته عن كسل في الدراسة أو فشل في الدراية، أما المسؤولية فتقع على من كان يعلم ويفهم هذه الطبيعة، لكنه لجأ عن جبن إلى أسهل السبل لتفادي المواجهة بتسميته باسمه، حتى لا تقع مسؤولية المواجهة عليه.

وهكذا، تمكن «الحزب» من اللعب في الساحة التي يتقن فنها، واستدرج الغافلين والمتجاهلين إلى أحبولة «شعب وجيش ومقاومة» لتمويه اسمه، أو ردع من يعرف الاسم عن تسميته. المصيبة هي أنّ معظم قيادات الرابع عشر من آذار مارست على ذاتها رقابة داخلية، متبرئة أو مفردة لمن يتجرأ على التسمية.

أذكر في شهر آذار 2006، عشية انطلاق أحبولة الحوار التي اخترعها الرئيس نبيه بري كجزء من عملية التمويه، انبرى حسن نصرالله في خطاب هدد فيه من يطالب بسحب سلاحه بقطع اليد والرأس ونزع الروح. كان من المنطقي أن يستفز هذا الكلام البعض أو ينذر البعض الآخر بحقيقة ما هو «الحزب» كأداة في يد إيران ولاية الفقيه لتأديب أو إرهاب أو تصفية من يقف في وجه مشروعه، الذي لم يتردد في قتل رفيق الحريري من أجله. لكن الصدمة كانت حين عندما تجاوز الجميع هذا التهديد وانغمسوا في لعبة الشيطان على طاولة أساسها الأوهام والرهان على «أن يكفي الله المؤمنين شر القتال». بالمحصلة استمر العسس إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه، لأننا لم نسمِّ الأشياء باسمها منذ البداية. من هنا، علينا بشكل واضح ومباشر أن نصف الاحتلال الإيراني بواقعه وليس بالمواربة حتى نتمكن من السعي إلى الحلول.