كارين عبد النور

80 ألف بئرٍ مخالِفة... بأذونات شفهيّة وتجاوُز لشروط الحَفر

في كفرحونة... قصّة "بئر وغطاها"!

26 أيلول 2023

02 : 00

نبعة عبد النور هكذا كانت

وكأن التعدّيات فوق الأرض لا تكفي. إذ تُمعن تلك التي تستهدف باطِنها وثروة لبنان المائية فوضى وضرراً هي الأخرى. أكثر من 80 ألفاً هو عدد الآبار المحفورة بطريقة مخالِفة على كافة الأراضي اللبنانية. وحَفر الآبار الإرتوازية عشوائياً - بإذنٍ من قوى الأمن الداخلي ومن دون الرجوع إلى وزارة الطاقة والتقيّد بشروط الحَفر واحترام منطقة «حظر الآبار» - هو إحدى علامات الفلَتان المستشري. «الطاقة» منهمِكة بتأمين بواخر الفيول. و»الداخلية» تؤرقها تصفية حسابات شخصية وسياسية. أما القضاء، فمطوَّعٌ وغارقٌ في قعرِ بئرِ شللٍ لا ينضب.


أنظمة التنقيب عن المياه وحَفر الآبار الإرتوازية في لبنان، بدءاً بالقرار الرقم 144/س تاريخ 10/6/1925، مروراً بالقرار رقم 320 تاريخ 26/05/1926، وصولاً إلى القرار رقم 118 /ف.و/2010 تاريخ 13/9/2010، والعديد من المراسيم والقرارات الأخرى، نصّت على ما يلي: منع التنقيب عن المياه ضمن شعاعِ 350 متراً عن ينابيع المياه المتفجّرة، وشعاع 2000 مترٍ عن مصادر المياه العمومية. لكن ما يجري في بلدة كفرحونة الجزّينية منذ 2015، مثلاً، والذي لا يختلف عما يحصل في بلدات أخرى عديدة، لا يمكن إلّا أن يُدرج تحت خانة: «الاستيلاء على المياه الجوفية بمباركة رسمية».



حَفر... بإذنٍ ما

إلى كفرحونة. ففي التفاصيل، وتحديداً في العام 2009، قام السيّد جورج عزيز وشقيقه ريمون بِحَفر بئر إرتوازية في عقارهما رقم 852/كفرحونة مستحصِلَين على إيصال عِلمٍ وخبر. وذلك حصل رغم وجود ينابيع خاصة تقع ضمن شعاعِ 350 متراً عن البئر المحفورة، إضافة إلى عدة مصادر مياه عمومية ضمن شعاع 2000 مترٍ، أبرزها نبع الفوّار الذي تَستخدم مياهه مصلحة مياه الجنوب كمياه للشفة. وفي ظلّ غض نظر كافة الجهات المعنية، لم يتوانَ الشقيق ريمون عن حفر بئر ثانية في عقاره رقم 2332/كفرحونة في تشرين الأول 2015 من دون أي ترخيص مسبق، مكتفياً بالاستحصال على إذن شفهي من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (وهو ما اعترف به صراحة في الصفحة الثالثة من لائحته الجوابية الأولى لمجلس شورى الدولة).

لكن «مش كل مرّة بتسلم الجرّة». ففي اتصال مع «نداء الوطن»، أفادنا المحامي طانوس رزق، وكيل المتضررين من حفر البئر، بأن ما قام به ريمون عزيز أدّى إلى جفاف النبع المعروف بـ»نبع حمدون» والذي يتفجّر في عقار للسيّدين عطا ونقولا عبد النور رقم 2376، وفي عقار للسيّدين الياس وعماد الحداد رقم 2205. من هنا، تقدّم مالكو العقارَين المذكورَين بشكوى إلى وزارتَي الطاقة والمياه والبيئة. فما كان من الأولى إلّا أن كلّفت لجنة فنّية وضعت تقريرها في 8/3/2016، مؤكّدة جفاف ستة ينابيع ضمن شعاعِ 350 متراً عن بئر السيّد عزيز، في حين كلّفت وزارة البيئة لجنة من قِبَلها وضعت تقريرها في 10/5/2016 مشيرة إلى أن البئر الإرتوازية أدّت إلى جفاف كافة الينابيع المحيطة بها.

«نَسفُ» قرارات بالجملة

فماذا حصل بعدها؟ «أصدر وزير الطاقة والمياه آنذاك، أرتور نظريان، قراراً بتاريخ 08/06/2016 طلب فيه مؤازرة القوى الأمنية لردم البئر الإرتوازية غير المرخّصة الواقعة في عقار السيّد عزيز رقم 2332/كفرحونة. ذلك أن البئر لا تخضع للتسوية كما أنها ألحقت ضرراً فادحاً بمياه الينابيع المجاورة وتسبّبت بجفاف ستة منها، ما يستلزم ختمها بالشمع الأحمر»، كما يجيب رزق. غير أن عزيز لم يرضخ للأمر الواقع بل تقدّم بطلب «أمر على عريضة» إلى قاضي الأمور المستعجلة في جزّين بتاريخ 10/06/2016 الذي أصدر مباشرة قراراً جاء فيه: «وحيث، وإن كانت هذه المحكمة ليست المرجع الصالح للنظر بمدى صحة قرار الوزير، أو البت بطلب وقف تنفيذه، إلّا أنها تطلب اتّخاذ الإجراءات اللازمة لتجميد مفاعيله ودرء الأضرار التي يمكن أن تترتّب عليه في حالة تنفيذه».

بناء عليه، تراجع نظريان عن قراره موجّهاً كتاباً إلى وزارة الداخلية والبلديات بتاريخ 22/6/2016 يطلب فيه التريّث بردم البئر لحين البتّ بالموضوع قضائياً وإدارياً. فكيف أصبحت البئر بين ليلة وضحاها «قابِلة للتسوية» رغم اعتراف الوزارة بالضرر الذي ألحقته بالينابيع المجاورة؟ سؤال نطرحه بعد قليل على وزارة الطاقة، لكن نعود أولاً إلى عزيز. فقد تقدّم بمراجعة امام مجلس شورى الدولة الذي أصدر قراراً إعدادياً ردّ فيه طلب وقف تنفيذ قرار ردم البئر، ما لبث أن تراجع عنه في 01/11/2016، مطالباً بوقف تنفيذ قرار الردم الصادر عن الوزير. بعدها، وبتاريخ 26/11/2016، أصدر وزير الطاقة قراره بإجازة استعمال مياه البئر على سبيل التسوية في العقار 2332/كفرحونة استناداً إلى تقرير شركة «Apave»، الشركة المعتمَدة من قِبَل وزارة الطاقة والتي تضفي بُعداً إضافياً على المسألة.



نبعة عبد النور قبل وبعد الحفر



تلاعُب بالتقرير

نغوص أكثر في تقرير «Apave» التي لجأ إليها المدّعى عليه ريمون عزيز حيث وضعت تقريراً مزوّراً (كما سيتبيّن لاحقاً)، ما أدّى إلى تراجع وزارة الطاقة عن قرارها بعد أن اعتبرت البئر «غير قابلة للتسوية». ومن أبرز عناصر التزوير التي شابت التقرير، بحسب رزق: تقدير المسافة التي تفصل البئر عن نبع حمدون بـ688 متراً بينما هي حقيقيةً 192 متراً؛ اعتبار أن للبئر المحفورة تأثيراً متوسّطاً على النبع المذكور، وذلك لتفادي إمكانية رفض التسوية والترخيص؛ تقدير بُعد الإحداثية بحوالى 720 متراً عن الإحداثية الحقيقية لموقع البئر، علماً أن أخْذ الإحداثيات يتمّ من خلال الأقمار الاصطناعية، ما يمنع حصول أي خطأ مماثل.

ونكمل مع شكوى آل الحداد وعطا عبد النور لدى وزارة الطاقة. فقد جرى، متابعةً، تكليف لجنة وضعت تقريراً قانونياً وفنياً شاملاً في تشرين الأول 2020، اقترحت فيه اتّخاذ الإجراءات الإدارية اللازمة لإقفال البئرين القائمتين على العقارين 2332 و852 ووقف استثمارهما تمهيداً لردمهما، لمخالفتهما الشروط القانونية. ويضيف رزق: «بسبب تقاعس وزارة الطاقة والمياه عن تنفيذ قرار الردم، تقدّم عبد النور بشكوى إلى التفتيش المركزي الذي أوصى في تقريره الصادر بتاريخ 02/02/2021 بردم البئرين وسحب التراخيص المعطاة باستعمالهما، كما بشطب «Apave» من لائحة شركات التدقيق المعتمَدة من قِبَل الوزارة وإحالة مخالفاتها إلى النيابة العامة التمييزية». عندها، بتاريخ 22/12/2021، قامت الوزارة بإصدار قرار يقضي بسحب الإيصالين باستعمال المياه في البئرين وردمهما.



... والقضاء «يُنيّم» الملف

رزق يخبرنا أن الدعاوى ما زالت عالقة لدى القضاء بانتظار البت بها. فالشكوى الجزائية التي قدّمها الياس وعماد الحداد ضدّ «Apave» وريمون عزيز لقاضي التحقيق في جبل لبنان، القاضي بسام الياس الحاج، بتهمة تزوير وتقرير كاذب واستعمال مزوّر واحتيال على الإدارة والقضاء، لا تزال تنتظر القرار الظنّي. ويتساءل ما إذا كان بالإمكان تسريع صدور الأخير بعد المخالفات الواضحة التي أثبتتها التقارير والقرارات وتوصية التفتيش المركزي. في الأثناء، قدّم الأخَوان الحداد طلب إعادة محاكمة وطلبا إحالته إلى مجلس القضايا حيث تَسجّل تحت رقم 114، في حين تقدّم ريمون عزيز بمراجعة لإبطال قرارَي وزير الطاقة والمياه وطلب إحالتها إلى مجلس القضايا حيث ضُمّت إلى المراجعة رقم 114 وهي لا تزال عالقة أمام المجلس.

في حديث مع «نداء الوطن»، أشار عبد النور إلى أنه تقدّم بشكوى إلى النيابة العامة في بعبدا خضعت لتحقيق الضابطة العدلية. «عندها قامت القاضية نازك الخطيب بتكليف خبير جديد أكّد أن المسافات لا تتطابق مع ما أشارت إليه «Apave». كما قامت باستدعاء رئيس مصلحة الاستملاك والحقوق على المياه الذي أفاد بعدم وجود رخصة للبئر في أرشيف المصلحة، وبالتالي فالمخالَفة قائمة. رغم ذلك تمّ حفظ الملف وهو ما زال نائماً حتى الساعة»، كما يقول. واستغرب عبد النور عدم استدعائه والاستماع إليه كما حفظ الخطيب للملف ضاربة بعرض الحائط توصيات التفتيش المركزي وكافة التقارير التي تشير إلى تزوير «Apave» مثل تقرير الخبير سمير عرمان؛ تقرير جمعية الشبّان المسيحية المكلَّفة من وزارة البيئة؛ تقرير الخبير سعيد الياس القطار المكلَّف من قاضي أمور العجلة في جزّين؛ تقرير الخبير ميشال مهاوج الذي عيّنه مجلس شورى الدولة؛ وتقرير الخبير علي مراد الذي عيّنته النيابة العامة في بعبدا. فأين القضاء من محاسبتها بجرم تزوير التقرير وتضليل الحقيقة؟



جفاف نبعة الأخوين



خزان مياه الأخوين الحداد



يباس الشجر على ضفاف نهر المشرح



جفاف نبعة الأخوين





الوزارة تقرّ... ولكن

مصدر مطّلع في وزارة الطاقة أكّد لـ»نداء الوطن» أن الخطأ الرئيسي يتمثّل بتقرير «Apave» الذي نفى علاقة البئر المحفورة بجفاف الينابيع، رغم أن الشركة عزت السبب إلى المسّاح الذي أخطأ في الإحداثيات. «لكن ذلك لا يبرّر للشركة ولا يرفع المسؤولية عنها، إذ كان يُفترض بها التأكّد من الإحداثيات قبل وضع تقريرها. ولا شك أن الملف لم يسلك مساره الإداري الصحيح داخل الوزارة»، وفقاً للمصدر. وعن سبب عدم ردم البئر بعد التأكّد من عدم صحة تقرير «Apave» يجيب المصدر بأنه، بعد صدور قرار الوزارة بالردم، فُتحت دعاوى قضائية بالملف، وحين يتدخّل القضاء على الوزارة انتظار الحكم.

على أي حال، رَفعت الوزارة تقريراً إلى محكمة الشورى نفت فيه صحة تقرير «Apave». لكن المحكمة ارتأت تكليف خبير جديد والأمور لا تزال عالقة هناك. نسأل المصدر عن الأسباب التي تقف وراء اعتماد الشركة – المشكوك بمصداقيّتها - حتى الساعة من قِبَل وزارة الطاقة، فيردّ: «هناك عدة تقارير للشركة المذكورة تشوبها العيوب وكان يُفترض إيقافها عن العمل. غير أننا نعمل على مرسوم تطبيقي يقضي بفتح الباب أمام كافة الشركات الجيولوجية لتقديم أوراقها، فنكون بذلك انتقلنا من الحصرية إلى المنافسة الحرة بين شركات جديدة».

وزارة الطاقة، التي يجمع المعنيّون بالملف على كونها الجهة التنفيذية المسؤولة عن ردم البئر حدّاً لأضرارها، رمت الكرة في ملعب القضاء. القضاء ألقى بدوره بالملف، حتى إشعار آخر، في أدراج النسيان. وأشجار «بستان العقبة» المحيطة بالبئر أصابها اليباس وغطّت الأشواك والعلّيق جذوعها. هي قصة بئرٍ من آبار أخرى كثيرة مشابهة. لكن من قال إن «اليباس»، في وطن الأرز، محصورٌ بأخضرٍ محيط ببئر مخالِفة هنا وأخرى هناك؟



قرار وزارة الطاقة بردم البئر وختمها بالشمع الأحمر



قرار التفتيش المركزي بردم البئر وشطب شركة Apave وإحالتها إلى النيابة

MISS 3