جيمي الزاخم

"سفّاحُ الجيزة"...قاتلٌ متسلسلٌ بعوالمَ صامتة

4 تشرين الأول 2023

02 : 05

حوّل المسلسل المخادع العاديّ إلى مضطَرِب نفسيّ

تفتح لغةُ الدّم دائماً شهيّةَ صنّاع الدراما. فالجرائم وتشويقها وتحقيقاتها تجذب عينَ واهتمام المشاهد الذي يَميل إلى الغموض. لبنانياً، لم يستخرج أحدٌ من تاريخنا القريب والبعيد خيوط سفّاحين هزّت جرائمهم المجتمع المحلّي، على عكس المسلسلات العالميّة. أمّا عربياً، فهذه الإضاءات شبه نادرة. أحْدَثُها بثّته منصة «شاهد»: مسلسل «سفّاح الجيزة». لقبٌ أُطلق على المجرم المصريّ قذافي عبد العاطي. اسمٌ بجرائم متعدّدة و4 أحكام إعدام. قصة طازجة شغلت الصحافةَ المصرية والعربية منذ ثلاث سنوات. كوَّنَت رأياً عاماً أسّسَ قاعدةً جماهيريّة تلحق بالعمل إلى الشاشة. تسبقُه وتفتح له الباب.



على أرض الحقيقة

قبل الدخول إلى عالم الشاشة، ننطلق من منطقة الجيزة المصرية مع التحقيقات والاعترافات. قذافي رجلٌ محافظ، متديّن، هادئ ولطيف. هذا هو الظاهر الصامت. أمّا في الباطن، فجثث دفنها في شقّته: زوجته، شقيقة زوجته، وصديقه رضا. وقفوا بوجه مخطّطاته الاحتيالية، فتخلّص منهم. قصد الإسكندرية منتحلاً اسمَ صديقه رضا. استمرّ بعمليات الاحتيال، التزييف والتضليل دون أيّ شبهات. وعندما اكتشفت إحداهنّ وجهه الحقيقيّ، خنقَها. ألقي القبض عليه عام 2020 بتهمة سرقة. كُشف المدفون وكرّت الحقيقة. عام 2021، حُكم عليه بالإعدام بعد التأكد من عدم إصابته باضطرابات نفسيّة أو عقلية. وما زال ينتظر في زنزانته إبرامَ الحكم وتنفيذَه.

على الشاشة

إذا شاهد سفّاحُ الجيزة مقتطفات من المسلسل في سجنه، ربما لن يتعرّف على نفسه. يصمتُ السفاحُ الحقيقي. يتحوّل اسمُه إلى جابر. العمل لا يوثّق سيرة. الإضافات تُبرَّر للتجويد والتأنيق الدرامي. لكن كان لازماً تغييرُ عنوان المسلسل وعدم المقامرة بلقب شهير لضمان الجماهيرية. يتقاطع العمل مع خيوط من الواقع. لكنّ خلفيات الشخصية تبدّلت مع الأحداث بشكل جذريّ. تضاعف عددُ الجرائم. استبدل المسلسل المخادعَ العاديّ بمضطربٍ نفسيّ اخترعه مع عِقَد طفولة وَخَزَتْ إبرُها حياتَه. شهد قتلَ أبيه على يد أمّه التي قطّعت الجثة وباعت لحمَها. ينطلق العمل ببناء الشخصية من تحليلات علم النفس. علميّاً، الصدمة تخلق أضراراً في الدماغ. فيتحوّل الإنسان إلى كائن بدم بارد لا يتعاطف ولا يبكي. تجتاحه الرغبة الجامحة للعنف كمظهر من مظاهر القوة. عادةً، القاتل المتسلسل هو قاتلٌ بخطٍّ وهدف مع فئة محدّدة. أمّا في المسلسل، فالقتل يحلّ مشكلة فقط، ويخلق هالةً إجرامية غيرَ منطقية أحياناً. فتُقدِّم الحلقات الدمَ على طبق ساخن مع مبرّرات باردة أو حتى غائبة. تترك كرسيَّها للتحليل والاجتهاد الفرديّ لاستكشاف البطل. تحضر حياته الداخلية (أي الظاهرة على الشاشة) كطفل في الماضي وكرجل في الحاضر. أمّا مرحلة الفصل والوصل بينهما وخاصة المراهقة، فهي غائبة. تُترك فسحات الهواء بين المرحلتين. تمرّ بينهما صراعات داخلية لم تتوضّح. لخّصتها بعض الحوارات، الذكريات والهلاوس السمعيّة والبصرية.



المجرم الحقيقيّ في جلسة محاكمة



هذه الصراعات يَبّسها أداءُ البطل (أحمد فهمي) الذي يغيّر جلد أدواره مع هذا المسلسل. رمال انفعالاته التعبيريّة لا تُبلّ مقابل بحر أحداث يفور. فلا نصل إلى أبعاد الشخصية الداخلية والخارجية. صمتُه الثقيل أتى أحياناً خاوياً وبارداً. لكنّه في مشاهد أخرى، أشعل النارَ تحت جسدٍ يشويه القتلُ ويحاصره بَوْلُ طفل ينزف فضلات صدمة وخوف من أمّ غرزت أسنانَها الناقصة في قلب ابنها. قيّدَتْه. أهانَتْه. فكانت السفّاحة الأولى. لعبت الدورَ الممثلةُ حنان يوسف التي انتصب حضورُها على عمود ألف اسمها. وحلّقت عميقاً. حفرت شخصيتَها كأنّها تخرج ملتهبة من منشرة مصرية. تلتهم أداءَها والمسلسل مستلقيةً على فراشها في منزل بديكور- كما كل أماكن التصوير- يوائم جوّ العمل. ففاحت الرائحةُ المصريّة من الجدران، الخزائن، من أزياء الممثلين والطين والتراب الذي تختلط به جثثُ السفّاح الذي يرتكب جرائمه ليلاً. أمّا نهاراً، فيرافق رمادُ الأرواح وغبارُها الإضاءة حتّى داخل جدران البيوت البيضاء البريئة من الجرائم. فتعكس ثنائية الألوان ثنائية الروح والوضوح في مواجهة سفّاحٍ يرتكب جرائمَه برفقة أغنية تخلّد اللحظة. وتُبقيها حيّةً في الذاكرة السّمعية البصرية. فاتَّحَدَتْ مع العمل وأغْنَتْه مع موسيقى تصويرية وشارة البداية والنهاية.



حنان يوسف حلّقت عميقاً مع أمٍّ هي السّفاحة الأولى




نبقى في إطار الصورة. نقلَتْنا بين السنوات بـِ Flash backs تكشف المستور وتسترجع الأحداث بطريقة مربِكة. هو ليس ارتباكاً نفسيّاً يترجم حال البطل. إنّه يشتّت السرد. هذا السرد انطلق ببداية «انفجاريّة» تَبعتْها حلقاتٌ أولى بشّرت بمسلسل سليمٍ وناضج. لكن وكما بعض أعمال هذه الفئة، وصلنا إلى الحلقة الثامنة والأخيرة بإيقاع باهت وحبكات مبتورة وأحداث مفتعَلة زادت من بطولة البطل وحجّمت ذكاءَ وملاحقات الأجهزة الأمنية. مؤلّف العمل محمد صلاح العزب تقدّم بشكوى إلى نقابة المهن السينمائية المصريّة ضدّ المخرج هادي الباجوري، بسبب تعديلاته على الخطّ الدراميّ وتحريف مسار آخر حلقتين دون العودة للكاتب. وهذه مشكلة قديمة ومنتشرة في عالم ثنائيات الكتابة والإخراج.

هذه كانت بعض الانتكاسات واللّمعات الصامتة في عالم سفاح الجيزة. مُرّرت الطابة الدموية بين ممثلين خرج بعضهم من الملعب سالماً غانماً. تميّزوا بدورهم في مسلسل نجح، في أشواط متقطّعة، بتسديد الهدف مع جهود واضحة. اخترق صمتَ النفس البشرية التي يكسرها المجتمع وتدمّرها تربية الأهل أحياناً. توضع في قفص لا تخرج منه أبداً. وكلّما حاولتْ تحطيمَ القضبان، كلّما زاد اختناقُها.


MISS 3