عيسى مخلوف

وقفة من باريس

نحن لسنا في الواقع، ولا في الخيال!

16 أيار 2020

02 : 00

خرجنا من بيوتنا، بعد خمس وخمسين يوماً من الحَجْر، مثلما خرج نوح وقومه من السفينة، وكان معه، كما تقول الحكاية، من كلّ زوجين اثنين. العاصفة انتهت في الحكاية لكنها لم تنته بعدُ في الواقع، بسبب ما فعله أولئك الذين استباحوا الأرض ومن عليها، ومزّقوها بجَشَعهم وأنيابهم، وجعلوها مكاناً غير صالح للعيش.

نحن الآن لا نعرف أصلاً ما إذا كنّا في الواقع أم في الخيال، طالما أنّ وباء كورونا وضعنا أمام معادلة جديدة نجهل مفرداتها وأبجديّتها. العلماء كانوا يتوقّعون وباءً ما، وما زالوا يتوقّعون ما هو أدهى. وكانوا يحذّرون حكومات العالم من الانحدار لا محالة نحو الهاوية، لكنّهم بدوا، وسط صخب منطق السوق والاستهلاك، كأنبياء تائهين في الصحراء، يصرخون ولا صدى لصراخهم.

خرج الناس من بيوتهم برفقة الخوف من المجهول، كمن يخرج زائغاً من الظلمة إلى الضوء، أو كمن يطأ الأرض للمرّة الأولى كما فعل نيل أرمسترونغ على سطح القمر ذلك النهار من شهر تموز، العام 1969. يتحسّسون أمكنة يعرفونها ليتأكّدوا ممّا إذا كانت هي لا تزال تعرفهم. مشهد المختبئين وراء كماماتهم جعل الساحات والشوارع أشبه بفضاء لكرنفال كبير. خرجوا ووجدوا متاجر ومرافق فُتحت وأخرى بقيت مقفلة. إضافة إلى محلاّت السمانة والطعام الجاهز، وبعض محلات الشوكولا والعطور والأزهار التي ظلّت أبوابها مفتوحة حتّى أثناء الحَجر، عادت إلى الحياة المكتبات الصغيرة المبعثرة، هنا وهناك، في أحياء المدينة، بخلاف المكتبات العامّة الكبيرة التي لم يُحسم وضعها بعد. في مكتبة "لافونتين" المجاورة لمنزلي، ورحتُ أتفقّدها منذ اليوم الأوّل، سمعتُ طفلة تسأل والدتها: "هل يمكننا أن نلمس الكتب؟ هل هي كلّها معقّمة؟". سمعتُ السؤال ولم ألتفت إلى مصدره، بل تابعتُ النظر إلى أحد الرفوف كأنني أبحث بين كتب الخيال العلمي عن كتاب يصف حالتنا الآن.

لا، نحن لسنا في الواقع، ولا في الخيال!

إنه أيضاً وقت المراجعة ورصد انعكاس الحَجْر، نفسيّاً وجسديّاً، على المحجورين. وهذا ما تتناوب على تناوله مختلف وسائل الإعلام الفرنسيّة، خصوصاً في البرامج الثقافيّة التي لجأت إلى استنطاق الكتّاب والمفكّرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع لتحليل هذه الظاهرة الجديدة التي لم تعرفها أوروبا منذ الحرب العالميّة الثانية. ويتبيّن على الفور أنّ الحَجْر لم يكن واحداً بالنسبة إلى الجميع. هناك من وجدها فرصة مناسبة لالتقاط أنفاسه وإعادة النظر في أحواله، وشعر بأنه تخلّص، ولو إلى حين، من ضغوط الحياة اليومية، وفي المقابل، هناك الذين وجدوا أنفسهم داخل متاهة لا يعرفون كيف يتخلّصون منها، فضلاً عمّا يفرضه هذا الواقع من خوف وقلق على الصعيدين الصحّي والمهني. الكاتبة المغربية – الفرنسية ليلى سليماني الحائزة على جائزة "غونكور" كتبت الشهر الماضي يوميّاتها عن فترة الحَجر التي كانت تمضيها في قلب الطبيعة، بعيداً عن باريس، وصوّرتها كفترة راحة واستجمام. هذه اليوميّات التي نشرتها في صحيفة "لوموند" أثارت ردود فعل سلبيّة كثيرة انتقدت حياتها البورجوازية التي جعلتها، بحسب بعض الآراء، تنسى الذين يعانون في قلب المدن الكبيرة، المحتجزين داخل غرف صغيرة مغلقة وفي ظروف حياتية صعبة.

العزلة لا تشكّل فقط جزءاً من أدوات الكتابة ونظرة الكاتب إليها لا تنحصر في موقف واحد. بالنسبة إلى البعض، قد تكون العزلة - أو الحُجرة التي هي جسدها - مكاناً للجحيم أو للنعيم، بمعزل عن الموقف الإنساني. موضوع الانعزال والحَجر من المواضيع الأساسيّة في نتاج عدد من الكتّاب والفلاسفة الفرنسيين، ومنهم مارسيل بروست وجان بول سارتر. في قصة بعنوان "الغرفة"، يتحدّث سارتر عن زوجة تريد إزالة الجدار الذي يفصلها عن زوجها، بينما الزوج ليس مثلها أسير المكان، بل هو أسير نفسه. تحضر أيضاً تساؤلات سارتر حول الحَجر في نصّه المسرحي "الأبواب المقفلة"، حيث يطالعنا جانب من العلاقة مع أنفسنا ومع مَن حولنا. نسعى إلى الاكتمال بالآخرين، نتأثّر بنظراتهم، وننتظر منهم دائماً أن يعطونا ما ليس في وسعهم.

أمّا بروست الذي قبع طَوعاً داخل غرفته وحصَّن جدرانها بعازل للصوت، فاستعاد ذكرياته وحوّلها إلى واحد من كنوز الأدب العالمي. "البحث عن الزمن الضائع" هو البحث عن الطفولة التي يختبئ الفردوس في ثناياها، وهو إيقاظ الذكريات النائمة والانطباعات الأولى المدهشة.

لقد ساعدت الكتب نسبة كبيرة من الفرنسيين على تحمُّل الحَجْر، والتخفيف من وطأة الواقع، لأنها نوافذ مفتوحة على الذات والآخر، وعلى مزيد من الضوء والهواء.


MISS 3