ماري القصيفي

كتابات تستحق النشر

ثلاثية الستّين – بين الشلل وكورونا – جزء 1

19 أيار 2020

02 : 00

أن أبدأ مشوار حياتي مع شلل الأطفال، وأن أحتفل بعيد ميلادي الستّين مع الكورونا أمر لا فرادة فيه. ففي نهاية خمسينيّات القرن العشرين وبدايات الستينيّات كان وباء شلل الأطفال يصيب ملايين الناس تاركًا خلفه الموتى والمعوّقين المشلولين، واليوم، وبعد ستّين عامًا، ينتشر وباء الكورونا في كافّة بقاع الأرض شالًا الحركة في العالم كلّه. ولكن أن يكون المرء ذا حساسيّة مفرطة تجاه الألم والمرض والموت، فهذا ما يجعل الأمر مميّزًا، ويضعني في خانة لا أُحسد عليها، بل يجب على الأرجح أن يُرثى لحالي.

لقد تمنّيت دومًا لو أنّني نظرت إلى واقع إصابتي بالشلل على أنّها أمر خاصّ وشخصيّ، أكتب عنه مرّة واحدة أفرغ فيها مكنونات الصدر وأرتاح. لكنّي عجزت عن تحقيق ذلك، لا بل أجرؤ على القول إنّني تخطّيت موضوع الشلل والمشية العرجاء منذ البداية، لكنّي بقيت أسيرة الأسئلة التي يطرحها المرض بشقّيه الجسديّ والنفسيّ، وصولًا إلى الموت. وما زلت أذكر كيف أنّني مذ وعيت طبيعة حالتي كتمت مرارًا صوت ألمي لأصغي إلى أنين المرضى وصراخهم. وها أنا وقد تقدّم بي العمر ما زلت أحفظ، في وضوح تام، تفاصيل الإقامة في المستشفى، ويوميّات الحياة فيها، ولكن من خلال المرضى والطاقم الطبيّ والزائرين، ما شكّل مادة دسمة لعدد من القصص القصيرة والمقالات التي كتبتها.

واليوم، مع انتشار وباء جديد، شبّهه بعض العلماء بشلل الأطفال بل اقترحوا أن يكون لقاح الشلل علاجًا لهذه الجائحة، عادت التساؤلات التي ظننتني شفيت منها لتفرض نفسها عليّ. كيف لا والحجر الصحيّ يعيق ما اعتبرناه حياة طبيعيّة، والوضع الاقتصاديّ يهدّد أبسط مقوّمات الحياة؟

بين الوبائين، شكّل السرطان حالة خبيثة لم توفّر صغيرًا أو كبيرًا، وحصدت أمراض أخرى غريبة عجيبة أرواح كثيرين، وكذلك حوادث السير، والحروب، وأمام هذه كلّها كنت أراقب وأحفظ وأنا أتمنّى لو أنّني لا أراقب ولا أحفظ.




ستّون عامًا من انتظار الأجوبة إذًا، والنتيجة وباء جديد تنقسم الآراء حول نشأته وطبيعته ووسائل علاجه، بل يشكّ كثر في حقيقة وجوده ويضعونه في خانة المؤامرات العالميّة.

ستّون عامًا من انتظار الشفاء من الأسئلة، والجواب الوحيد والأكيد سؤال جديد. ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الخروج من المستشفيات، انتظار العمل والانطلاق في الحياة، انتظار نهاية الحرب وتحرير القدس، وقف إطلاق النار، فتح المعابر، الكهرباء، قيام الدولة، عودة المغتربين،... والنتيجة ثورة لا تعرف ماذا تريد.

ستّون عامًا من الانتظار: انتظار الحبّ، انتظار رجل على قياس القميص الأزرق، لا يضجر من أسئلتي، ولا يستقوي على رِجلي ويخاف من رأسي...

***

خطر لي منذ بدء الحديث عن كورونا، ومن دون أيّ متّكأ علميّ طبيّ أنّه يشبه شلل الأطفال الذي كنت أعرف الكثير عن نشأته (منحوتات فرعونيّة تشير إليه) وتاريخه وانتشاره ولقاحه. ولكنّ أمورًا محدّدة جعلتني أربط بينهما كآلة التنّفس المرعبة التي يوضع فيها المصاب بشلل يعيق رئتيه عن العمل (عاد الحديث عنها)، أن يحمله أحد ولا يصاب به بل لا يعلم أنّه أصيب به، وكيفية انتقاله. لاحظوا كيف تصفه منظمّة الصحّة العالميّة عبر موقعها: "شلل الأطفال مرض فيروسيّ شديد العدوى يغزو الجهاز العصبيّ وهو كفيل بإحداث الشلل التامّ في غضون ساعات من الزمن. ويدخل الفيروس جسم الإنسان عبر الفم ويتكاثر في الأمعاء. وتتمثّل أعراض المرض الأوّلية في الحمى والتعب والصداع والتقيّؤ وتصلّب الرقبة والشعور بألم في الأطراف. وتؤدي حالة واحدة من أصل 200 حالة عدوى بالمرض إلى شلل عضال (يصيب الساقين عادة). ويلاقي ما يتراوح بين 5% و10% من المصابين بالشلل حتفهم بسبب توقّف عضلاتهم التنفسيّة عن أداء وظائفها". (الوفاة لا تكون إذًا إلّا عند تعطّل عمل الرئتين)

أمّا طرق انتقال الشلل بالعدوى فتتمّ بملامسة مُخاط أو بلغم الشخص المُصاب بشلل الأطفال، أو ملامسة البراز للشخص المصاب، أو الاتّصال المُباشر مع المُصاب بشلل الأطفال، وفيما يتعلّق بفترة الحضانة فهي تتراوح هذه الفترة بين 5-35 يوم، ويُشار إلى إمكانيّة نقل الشخص العدوى للآخرين بشكلٍ فوري قبل ظهور الأعراض، وحتّى أسبوعين بعد ظهورها.

فضلًا عن كلّ ذلك، استعدت أحاديث سمعتها عن انتشار شلل الأطفال في لبنان مثلًا:

غياب الدولة عن الاهتمام وتأمين اللقاحات (اضطرّت عائلتي لتوسيط إحدى المسؤولات في وزارة الصحّة لتأمين اللقاح لشقيقتي المولودة حديثًا)، وعدم اقتناع الأطباء بجدوى اللقاحات ورفضهم إعطاءها ما تسبّب بحالات شلل كثيرة، وغياب التوعية، طبعًا عهدذاك كانت وسائل التوجيه محصورة بتلفزيون لبنان والإذاعة الرسميّة والصحف، وهذه كلّها كانت غير متاحة للجميع خصوصًا في الأرياف والجبال وعند الطبقة المتوسّطة وما دون.

واليوم، مع الحجر الصحيّ المفروض في العالم كلّه، يتخوّف مسؤولون في منظّمات صحيّة من عودة شلل الأطفال إذا صرّح ميشال زافران من منظمة الصحة العالمية الذي يرأس المبادرة العالمية للقضاء على شلل الأطفال "لقد دمرتنا حقيقة أننا يجب أن نوقف نشاطاتنا التي نقوم بها من أجل القضاء على مرض عملنا بجد للتخلص منه".

وأضاف أن المنظمة "لم تضطر" إلى وقف البرنامج بهذه الطريقة من قبل. وما زالت هناك دولتان فقط حيث يستمر فيروس شلل الأطفال الموجود في الطبيعة بالانتشار هما باكستان وأفغانستان، لكن السلالة المتحوّرة من اللقاح نفسه تسبّبت أيضًا في تفشي المرض في العديد من دول إفريقيا."

وما بين أن يكون لقاح الشلل علاجًا للكورونا، أو أن ينتشر الشلل بسبب كورونا، يبدو العالم كلّه مشلولًا عاجزًا عن إنقاذ نفسه. أمّا أنا فأنظر إلى الطفلة والمراهقة اللتين كنتهما وقد خضعتا لعمليّات جراحيّة رائدة في ذلك الوقت، وأفكّر في أنّني عشت في حرب طويلة مريرة، وبين وبائين، وتقدّمت في العمر والخيبة، ومع ذلك ما زلت أؤمن بالحبّ... فأبتسم ولا أعرف لماذا...

(يتبع جزء ثان)