د. فادي كرم

عذابات الشعوب ذخيرة الأنظمة

23 تشرين الأول 2023

02 : 00

ليس كل الضحايا والشهداء هم الذين يسقطون في ساحات العنفوان والبطولات، وليست عذابات الشعوب دائماً تُقدّم ذخائر لأوطانها، فمنها ما يُستغلّ ليكون ذخيرة لتدعيم مكانات بعض الانظمة الإستغلالية والإنتهازية. وفي الوقت الذي لا تتخاذل الشعوب الحيّة في خوض معركة الدفاع عن السيادة والكرامة الوطنية، وتُدوِّن بدمها، صفحات ناصعة ومُشرّفة في كتب التاريخ، تحضر، وللأسف، بعض الدول الكبرى لتستفيد من النزاعات، ولتصرف النضالات المجيدة بطرق مُختلفة، من أجل تثبيت مواقعها ومفاوضاتها وقواعد الاشتباكات السياسية والنفوذية.

وأصدق من عبّر عن هذا الظرف المُعقّد بين حالتيّ «الحق والباطل» كان كلاماً صادراً، حول الحرب الدائرة في غزّة، عن الأمير تركي الفيصل «لا منتصر، بل ضحايا». وبالطبع الضحايا «الذخائر» هم الشعب والناس، التي تحوّلها المشاريع المتصارعة في المنطقة، ذخيرة.

إنّ العملية العسكرية المُباغتة لـ»حماس» ضدّ اسرائيل وعلى غلاف غزّة الاستيطاني، سمحت للقيادة الاسرائيلية الحالية، المأزومة داخلياً، سياسياً وقضائياً، بنقل المجتمع الاسرائيلي من حالة التشرّذم الذي شهده في السنوات الاخيرة، إلى حالة الحرب، فجيّش الشعب الاسرائيلي لخوض معركة البقاء، وقد ساعده بذلك، هول الهجوم «الحماسي» ونجاحه «الفريد من نوعه» بخرقه الدفاعات الاسرائيلية، ما أعطى الحجج الكافية للقيادة الاسرائيلية، لوصفه بأكبر تهديد وجودي لدولة اسرائيل، منذ نشأتها، واستطاعت سحب التداول به من خانة النضال لأجل الحقوق الفلسطينية. فمشاهد المجازر المتبادلة التي تُقترف، «عن قصد أو عن خطأ» ونقلها عبر وسائل الاعلام الأكثر تأثيراً على الشعوب، خدَمت إلى حدٍّ كبير، قيادات الدول المتصارعة في ساحات الشرق الاوسط، للتسويق للحرب الكارثية التي تُشنّ على الغزّاويين، وقد تمتدّ على اللبنانيين.

تسقط الضحايا لأجل الأوطان ولاجل القضايا المُحقّة، ولأجل سيادات الشعوب، ولأجل نيلها حرّياتها، كما يحدث مع الشعب الفلسطيني المظلوم، حيث تُعتبر نضالاتهم، ذخائر شبيهة بذخائر القدّيسين الذي يسقطون لاعلاء شأن الانسانية، ولكن، في الوقت ذاته، تقوم بعض الأنظمة الشرّيرة والخبيثة بالمتاجرة بالذخائر، كل الذخائر، الألوهية والوطنية، لصرفها في معاركها السلطوية والنفوذية.

في صراعات الشرق أوسطية، يتداخل النزاع الداخلي مع التوازنات الاقليمية، ومع المواجهات النفوذية الدولية، ذات الطابع الاستثماري، وتسيل دماء الشعوب المظلومة، الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية، لتُصرف في تدعيم المُحرّكات التسووية والتفاوضية التي تُجريها القوى الاقليمية لتمكين أجهزتها القمعية والبوليسية، من فرض سلطاتها على الشعوب المقهورة. وفي الوقت الذي تُناضل هذه الشعوب، بكلّ شجاعة، للحفاظ على هويتها واراضيها وقناعاتها، تدخل الانظمة إلى القضايا المُحقّة لهذه الشعوب، لتتبنّى بعض المُنظّمات، ولتحرّكها على توقيت مفاوضاتها، وتُقدِم ادارات بعض الدول النافذة عالمياً، على طرح مبادرات تُشرّع فيها المعادلات الخاطئة تحت منطق الواقعية القاضية بالاعتراف بشروط الاقوياء، والقاضية على الاطراف صاحبة الحقوق.

بنضالات الشعوب تُذخَّر الحقوق، وبضحايا الشعوب تُذخِّر الانظمة الاستغلالية مواقعها. إنّها معادلات صعبة ومُعقّدة في مسار الصراعات، ولا يفصل بين الذخائر والذخيرة، الّا التماسك الداخلي، المتمسّك بالمعايير الانسانية والحرّيات والشراكة الحقيقية، والابتعاد عن المشاريع الايديولوحية الفئوية، الموحِّدة للساحات.

(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»


MISS 3