سيلفانا أبي رميا

"القصر الأسود"... معلمٌ نادرٌ لم تُنصفه السياحة

جان بول صرّاف: "متحف العنبر" حلمنا التالي

2 تشرين الثاني 2023

02 : 00

في أسفل امتداد وادي قاديشا وغابة الأرز في بلدة كوسبا قضاء الكورة، مقابل دير «سيدة حماطورة» الأثري الذي يعود تاريخه إلى 1300 سنة، يطالعك بناء دائري ضخم مؤلّف من 7 طوابق من الحجر البركاني الأسود يحمل في زواياه قصة شغف وحلم طفولة ترجمها طبيب الأسنان إيلي صرّاف. وفي حديث لـ»نداء الوطن»، سرد ابنه جان بول صرّاف تاريخ هذه القلعة النادرة التي نفّذها والده بيديه بمساعدة عائلته الصغيرة لتُصبح معلماً تراثياً يحتضن متاحف ومسارح وجداريات فسيفساء لا مثيل لها.



كيف انطلقت فكرة القصر؟

منذ أكثر من 40 سنة، كان والدي الدكتور إيلي صرّاف طبيب الأسنان ومؤسّس نقابتهم في الشمال، لا يزال في الغربة، هو الذي لطالما راوده حلم تأسيس معلم ثقافي وسياحي نادر يبقى شامخاً في بلدته الأم كوسبا. فعاد إلى لبنان في خضمّ الحرب، ووسط الدمار والتهجير كان يسير عكس التيار حيث انكبّ على تنفيذ وإنجاز هذا المكان الذي سمّاه Chateau du Liban أو «قلعة لبنان»، ليُعرف لاحقاً باسم «القصر الأسود» بسبب لونه وحجره البركاني.

من هندس المكان؟

كان لوالدي صديق آنذاك يُدعى لوسيان دحدح يشغل منصب وزير البيئة، وهو اول من شجّعه على الإنطلاق بالفكرة مؤكداً له أنّ الوزارة ستدعم المشروع. فانطلق أبي على مساحة 50 ألف متر مربع، إلا أنّ الأحداث والحرب اللبنانية حالت دون وصول أي دعم او مساعدات له. على الاثر، نفذ المشروع بمبادرة العائلة الفردية حيث هندس الدكتور صرّاف المكان وبناه بيديه وبمساعدتنا نحن عائلته الصغيرة وبعض أبناء المنطقة.

هكذا، انطلقت الخطوة الأولى عام 1984، وعلى دوي المدافع جُلبت الحجارة البركانية السوداء اللون لتبني جزءاً من تراث. وانتهى العمل في القصر عام 1990.

أخبرنا عن الحجارة التي استُعملت؟

نقلت الحجارة كلها من خلال وسائل بدائية بجهود والدي وبعض العمال المحليين من منطقة عكار التي تشتهر بالحجر البركاني. هناك بركان واحد في لبنان فقط، تحديداً في عكار بين المنجز والقبيات وعندقت، وُجد منذ 4300 سنة. فُتن والدي بلون حجره وتركيبته وملمسه ووجده مناسباً لفكرته النادرة. مع العلم أنّ تنفيذ البناء باستخدام الحجر البركاني صعبٌ جداً كونه يحتوي على المعادن، ولا توجد أي آلات يمكنها قصّه، وتعسر أبي في إيجاد عمّال بناء يقبلون العمل به، إلا أن تعرّف إلى «المعلّم» سابا رومانوس ابن وادي قنوبين الذي بنى المكان حجرة حجرة.

ماذا يتضمّن «القصر الأسود»؟

عند مدخل القلعة تطالعك الـ»أهلا وسهلا» المحفورة على الحجر بست لغات (عربي، فرنسي، إنكليزي، برتغالي، روسي وصيني)، إلى جانب رسم للكرة الأرضية نقش عليها عبارة «حافظوا على الأرض»، وأحرف الأبجدية على أحجار السيراميك في قارب فينيقي (منحوت بفسيفساء تزيّن أرض القلعة).

أما الخريطة اللبنانية التي تزيّن الباب الحجري للواجهة الرئيسة الذي يزن أكثر من طن، فتدلّ إلى موقع القلعة والمواقع الأثرية الأخرى (قلعة صيدا، صور، طرابلس، جبيل، وادي قاديشا، وصولاً إلى الأرز مع أسماء القرى المحيطة بها). كذلك، جدرانه مزخرفة برسوم وآلات موسيقية شرقية، ديوان، جرن، مصنوعة كلها من مواد طبيعية صديقة للبيئة لا تحتاج إلى صيانة.

ماذا عن متاحف القصر؟

أولاً هناك متحف «الحجر الطبيعي» الذي افتُتح عام 2010 ويمتد على مساحة 1500 متر مربع في الهواء الطلق. وقد تحوّل عبر السنين من حقل رماية إلى مسرح شهد حفلات تراثية وفنية وعروض أزياء. أما اليوم فيضمّ حوالى 500 قطعة من المتحجرات تتوزّع في خمسة أقبية تتلاءم مع شكل الحجر. تتخذ هذه الأحجار أشكالاً فنية مختلفة كالسلحفاة والحيوانات المتحجرة والأصداف البحرية والجبلية وغيرها.

ثانياً، نجد متحف «فن الإنسان والطبيعة» الذي افتُتح عام 2000 ويتضمّن أكثر من 100 نوع من الأشجار اللبنانية القديمة كالسنديان، واللزاب والشوح والقطلب والكينا والبطم وغيرها. وفيه منحوتات نفّذها الدكتور صرّاف بيديه خلال 16 سنة، من رسم وفسيفساء ونحت... حتى أنه يتضمّن العيادة الأولى له التي تحكي تاريخ تطوُّر طب الأسنان.

الى ماذا يدل التمثال المثبت على رأس القصر؟

على رأس القصر تمثال كناية عن كرة تحيط بها ثلاثة تماثيل يحمل كل منها تاجاً وتفصل بينها خوابي النبيذ. ترمز الكرة إلى كروية الأرض والانتشار اللبناني الواسع (حوالى 20 مليون نسمة) بمختلف الدول والقارات. أما التماثيل فترمز إلى الحضارات ورسالة إلى التعددية التي يتميز بها لبنان، وما يجمع بينها هو تاج المعرفة والثقافة. كذلك، تمثل الخوابي تراث منطقة الكورة المعروفة منذ الأزل بصناعة الزيتون وزيت الزيتون، والتي ورثها والدي عن أجداده اذ يعود عمر بعضها إلى أكثر من ألف سنة.

هل صحيح أن هناك مساحة مخصصة لاستراحة العائلات؟

في الباحة الخارجية دعوة للإستراحة وتمضية يوم كامل شبيه بالـpicnic، مجهزة بكراسٍ وطاولات مصنوعة من الرخام وحجر الموزاييك بأشكال فنية ابتدعتها يد الفنان الدكتور إيلي صرّاف. يمكن استئجار هذه المساحة بمبلغ 200 ألف ليرة لبنانية فقط لكي تمضي العائلة يوماً لا يُنتسى في أحضان الطبيعة والتراث. أما خارج القلعة فثمة استعادة للحياة القروية اللبنانية، من صنع الفحم والكلس إلى الحرير والمونة والفرن العربي وبئر الماء ودبس الخروب وماء الورد وماء الزهر وغيرها.








القصر الأسود بحجره البركاني




كم رسم الدخول؟ وكيف حركة الإقبال؟

كان رسم الدخول يساوي 100 ألف ليرة لبنانية لكل متحف، إلا أنّه ومع تردّي الأوضاع المعيشية وتزايد الأزمة الإقتصادية قمنا بتحويل الرسم الكامل إلى دولار أميركي واحد يسمح لك بالدخول واستكشاف المكان بكامله. وهو سعر رمزي أردنا منه جذب المزيد من الأشخاص للتعرّف على هذا المعلم النادر. والإقبال جيد نسبياً لكن بالتأكيد نأمل أن يتحسّن.

هل تلقيتم أي دعم من أي جهة معنيّة؟

غابت المساعدات والدعم منذ وضع الحجر الأول لهذا الصرح وحتى اليوم. لا جهات معنية تسأل، والتمويل كله شخصي ونواجه صعوبة كبيرة في الصيانة نظراً للتكاليف الباهظة. المساعدة الوحيدة التي تلقّيناها كانت معنوية حيث أدخلتنا وزارة السياحة ضمن إعلانها الترويجي «أهلا بهالطلة» فقط لا غير.

هل من مشاريع مستقبلية للمكان؟

نعم، فقد رحل والدي قبل أن يتمكن من تنفيذ فكرة «متحف العنبر»، الذي نأمل أن نتمكن من إنجازه قريباً إلى جانب عدد من الأفكار الرائعة التي وضعها وبقيت خارج التنفيذ. ويبقى حلمنا الأكبر أخي وأمي وأنا، أن نحافظ على حلم والدي حياً، ونتوسّع به على خريطة السياحة فنُنصفه بتفاصيله الدقيقة وفنّه النادر.



متحف الحجر الطبيعي






MISS 3