هاورد فرانش

الغرب... أين شجاعته المعنوية بالنسبة إلى ما يُرتكب من فظاعات بغزّة؟

20 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في محيط قسم الطوارئ التابع لمستشفى الشفاء في غزة - 10 تشرين الثاني 2023

بعد دخول إسرائيل أخيراً إلى مستشفى الشفاء لا يمكن طرح أي تقييم نهائي حول الأدلة المرتبطة باعتبار ذلك المستشفى قاعدة لحركة «حماس». لكن كانت أول مداهمة للمستشفى أضعف مما ينبغي، لأن الاستيلاء على عدد صغير نسبياً من الأسلحة يُفترض أن يُقارَن بحجم المآسي والمخاطر التي ألحقتها إسرائيل بمئات المرضى الفلسطينيين بعد حرمان المستشفى من الكهرباء والوقود والإمدادات الطبية، تزامناً مع تضييق الخناق عليه بوتيرة تدريجية.



خلال عملية الاستيلاء على المستشفى، انقطع التواصل أيضاً مع مئات المرضى والأطباء والموظفين داخل المبنى. قد تتعدد التبريرات التي أعطيت كالأسباب الأمنية لقطع الاتصال مع العاملين، أو المرضى، أو من يشرفون على الموت، أو الأشخاص العالقين داخل هذا النوع من الأماكن. ولكن بغض النظر عن السبب الكامن وراء هذا الهجوم، يمنع الوضع القائم الصحافيين ومراقبين آخرين من معرفة ما يحصل فعلاً، ويحرم العالم من مصادر معلومات مستقلة حول حقيقة ما يدور في مكان الحدث.

رغم إصرار إسرائيل والولايات المتحدة على مزاعمهما المرتبطة باستعمال مستشفى الشفاء كقاعدة أساسية لعمليات «حماس»، أنكرت الحركة وموظفو المستشفى هذه المعلومة. يبدو أن أول مجموعة من الأدلة العلنية، مثل الفيديو الذي يعرض مخبأ الأسلحة المزعوم، لن تكون كافية للتأكيد على استعمال المستشفى كقاعدة عسكرية. في غضون ذلك، لم تنشر إسرائيل بعد أي أدلة على وجود مركز قيادة تحت الأرض أو الأنفاق التي يُفترض أن تنشط «حماس» فيها تحت المستشفى. قد يتغير المشهد العام مع مرور الوقت، إذا نشر صحافيون مستقلون معلومات أخرى بعدما يتسنى لهم أن يقوموا بعملهم بلا رادع. ستكون هذه المقاربة الطريقة الوحيدة التي تسمح بمعرفة الحقيقة.

استنكرت مؤسسات دولية مثل منظمة الصحة العالمية، وجماعات المجتمع المدني مثل «هيومن رايتس ووتش»، الحصار الإسرائيلي للمستشفى واعتبرته تجاهلاً مقصوداً لحياة الأبرياء، وهو وضع يستحق إطلاق تحقيق رسمي بجرائم الحرب المرتكبة. لا يُعتبر القانون الدولي مفيداً بالشكل المطلوب على مستوى تعريف جريمة الحرب أو تحديد الظروف التي تبرر استهداف المستشفيات كجزءٍ من أي عملية عسكرية. تتعدد النقاط الغامضة التي لا تزال تطرح أسئلة محورية قابلة للتأويل.

لكن تبقى المعايير المنطقية والأخلاقية مسألة مختلفة بالكامل. لا مفر من أن ينصدم الكثيرون بحرمان المرضى من الكهرباء، أو الأطفال الخدج من الحاضنات، أو المرضى الخاضعين للجراحة من مواد التخدير والإضاءة المناسبة، فتلك ممارسات اجرامية وغير مقبولة. في الأيام الأخيرة، لم يعد المستشفى يستطيع تقديم الرعاية الطبية، فاضطر لدفن الموتى في مقابر جماعية، وقال مدير المستشفى إن الكلاب بدأت تقتات على الجثث المنتشرة في أرض مفتوحة. ما لم تنشأ مقاومة مسلّحة ناشطة ومكثّفة ضد إسرائيل من داخل المستشفى بحد ذاته أو من تحته، يصعب تبرير الحملة الإسرائيلية ضد مستشفى الشفاء. هذا ما جعل الرئيس الأميركي جو بايدن على الأرجح يدعو إسرائيل علناً إلى حماية حياة البشر هناك، ولو أن موقفه كان متأخراً.

لكن قد يكون مستشفى الشفاء مجرّد حدث جانبي، نظراً إلى طبيعة الهجمة الإسرائيلية العامة في غزة، فقد دمّر الإسرائيليون عدداً هائلاً من المباني هناك، وقتلوا واحداً من كل 200 شخص مقيم في غزة، وأطلقوا هجرة جماعية هائلة للمدنيين من الشمال نحو جنوب هذه الأرض المحاصرة التي تُعتبر مكتظة وخطيرة أيضاً، ولو بدرجة أقل. سواء تأكّد استعمال مستشفى الشفاء كقاعدة أساسية لعمليات «حماس» أو لم تتأكد هذه المعلومة، تحوّلت تلك الحملة الإسرائيلية الواسعة إلى شكل من العقاب الجماعي وشبه العشوائي الذي يبقى نادراً في الحروب الحديثة.

تعليقاً على الموضوع، كتب الصحافي عاموس هاريل في صحيفة «هآرتس» حديثاً: «ستصبح معظم ساحات المعارك في شمال غزة غير مناسبة للسكن البشري طوال أشهر، أو حتى سنوات. لقد تدمّرت أحياء كاملة من مدينة غزة وضواحيها، ولا ننسى كمية الذخائر التي ستبقى في المنطقة خلال المراحل المقبلة».

لا يمكن إقامة أي مقارنات مثالية في هذا المجال، لكن قد يكون الغزو الروسي لأوكرانيا من أفضل المقارنات الممكنة. كانت التكتيكات الروسية هناك كافية لدفع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الإدلاء بالموقف التالي أمام الأمم المتحدة: «لا يمكننا أن نسمح للجرائم التي ترتكبها روسيا بأن تصبح المعيار الطبيعي الجديد... قصف المدارس والمستشفيات والمباني السكنية ليس طبيعياً بأي شكل».

لكن أصبحت هذه الممارسات في غزة طبيعية منذ أكثر من ستة أسابيع، حتى أنّ سيل المواقف الإسرائيلية التي تُعبّر عن رغبة صريحة في سحق غزة بالكامل بات مألوفاً في الوقت الراهن. في غضون ذلك، أثبتت الولايات المتحدة ترددها المستمر في رفع الصوت بشأن ممارسات كانت لتدينها حتماً لو استُعمِلت تكتيكات مماثلة وبلغت حصيلة القتلى المستوى نفسه خلال أي صراع مشابه في مكان آخر من العالم.

هذا ما يوصلنا إلى المعضلة الأخلاقية القائمة في عمق هذا الصراع الشائك. أنا شخصياً لا أضع هذه الأحداث في خانة الحرب، لأن الحروب تقع في الحالات العادية بين دول رسمية. قد تكون حركة «حماس» مبهرة من الناحية التكتيكية، وهي مهارة أثبتتها خلال هجومها المريع الذي ترافق مع قتل وخطف الناس في إسرائيل في 7 تشرين الأول، لكن لا تنطبق مواصفات الدولة على هذه الحركة، وهي لا تمثّل الشعب الفلسطيني ككل.

في مفارقة مريعة ولافتة، تتّضح طبيعة هذه المعضلة في مرجع معروف عن محرقة اليهود بعنوانMan’s Search for Meaning (بحث الإنسان عن المعنى). نُشِر هذا الكتاب في العام 1946، وهو بقلم الطبيب النفسي فيكتور فرانكل الذي كان أحد الناجين من معسكر اعتقال. يروي فرانكل قصة عن الحالة النفسية التي عاشها هو وسجناء آخرون تحرروا حديثاً من معسكر الاعتقال، وقد تشكّل هذه الحكاية مثالاً خالداً ذات معنى عالمي.

يكتب فرانكل: «خلال هذه المرحلة النفسية، لوحظ أن من يحملون طبيعة أكثر بدائية يعجزون عن الهرب من تأثير الوحشية التي أحاطت بهم خلال حياتهم في المعسكر. هم يظنون بعد تحررهم أنهم يستطيعون استعمال حريتهم بطريقة وحشية وجامحة. لم يتغير شيء في حياتهم باستثناء انتقالهم الآن إلى معسكر الظالمين بعدما كانوا مظلومين. لقد أصبحوا محرّضين تُحرّكهم القوة والظلم بدل أن يتمسكوا بدور الضحية. هم يبررون تصرفاتهم عبر استعمال التجارب المريعة التي عاشوها سابقاً. اتّضح هذا الجانب في حالات كثيرة عبر أحداث بسيطة ظاهرياً. كان أحد أصدقائي يمرّ بحقل إلى جانبي باتجاه المعسكر، فوصلنا فجأةً إلى مساحة تغطيها محاصيل خضراء. أنا تجنّبتُ الدوس على الأرض تلقائياً، لكنه أدخل ذراعه في ذراعي وسحبني نحوه. قلتُ له متلعثماً إنني لا أريد الدوس على محاصيل حديثة العهد، فانزعج من كلامي ونظر إليّ بغضب وصرخ قائلاً: «أحقاً تقول لي ذلك؟ ألم نُحرَم حتى الآن بما يكفي؟ زوجتي وابني تعرّضا للاختناق بالغاز وممارسات مريعة أخرى، وأنت تمنعني من الدوس على بعض نباتات الشوفان»! لا يستطيع هؤلاء الأشخاص أن يدركوا أن أحداً لا يحق له أن يرتكب المساوئ، حتى لو ارتُكِبت المساوئ بحقهم، إلا مع مرور الوقت.

فيما يعدّد فرانكل أهوال محرقة اليهود، يُفترض أن نفكر بجرائم القتل والخطف الوحشية التي حصلت في 7 تشرين الأول. لو كان فرانكل حياً اليوم، يصعب أن نتخيل تأييده لشعار «سحق غزة» الذي عبّر عنه عدد كبير من الناس في إسرائيل خلال الفترة الأخيرة، وهو جزء من أبرز التكتيكات الرامية إلى هدم أحياء بأكملها. تفتقر تلك المصطلحات إلى الإنسانية، وقد دفعت هذه التكتيكات العسكرية بالخبراء المتخصصين بمحرقة اليهود والإبادات الجماعية عموماً إلى التحذير من خطر حقيقي وشيك: تتحول حملة إسرائيل ضد حركة «حماس» في غزة إلى إبادة جماعية.

لتجنّب هذه النتيجة، تقضي الطريقة الوحيدة بالامتناع عن تبرير أي هجوم عنيف من الجيش الإسرائيلي في غزة أو إعطائه طابعاً شرعياً لمجرّد أن هدفه النهائي يتعلق بالتخلص من «حماس». يجب ألا يسمح الإسرائيليون لأنفسهم بالاحتفال بهذا النوع من العمليات الانتقامية الجامحة، حتى لو وقع المجتمع الإسرائيلي ضحية أحداث مريعة في 7 تشرين الأول. كذلك، يُفترض أن يتحلى الغرب، الذي سارع إلى دعم إسرائيل بعد تلك الاعتداءات المشينة، بالشجاعة المعنوية اللازمة لمنع ارتكاب أهوال وجرائم أخرى عبر التكلم بوضوح عن الظلم الكبير الذي يتحمّله معظم الفلسطينيين في غزة، مع أنهم غير مسؤولين عن الأحداث الأخيرة.


MISS 3