جيمي الزاخم

قنابل الفوسفور... أَخْطَبوطٌ يُوْمِضُ يحرِقُ ويَقتُلُ

4 كانون الأول 2023

02 : 01

الأَخطبوط الفوسفوريّ في الجنوب

للحروب أسلحتُها. وللأسلحة ضحاياها. مدنيّون، عسكريون، حيوانات، تربة، ماءٌ، هواءٌ... تُفرِّقُهم الحياة ويجمعهم الموتُ على مقصلة أسلحةٍ استخرَجَت، من وَكْر العلم وفوائده، نحلاً وأفاعي تلسعُ تُحرق وتُدمّر. راهناً ودائماً، الفوسفور الأبيض في الطّليعة. إنّه سلاحٌ أسود بقذائفَ وسموم تسكن الصمتَ والوقتَ. في غزة وجنوبيّ لبنان، وقبلهما في حروب لفّت المعمورة والأزمنة من إيطاليا، فييتنام، اليابان إلى أفغانستان، الصومال، سوريا والعراق... إلخ من لائحة حروب وجائحات إنسانية وبيئيّة مع قنابلَ فوسفوريّة حراريّة تلتهم الأخضر والأحمرَ. لبنانياً، نَشر السرطانُ الاسرائيلي الجويّ الأورامَ الفوسفورية في جسد المنطقة الحدودية الجنوبيّة. الأرقام تصدر تباعاً. والمؤسسات المعنيّة تنتظر برود الأجواء الحربيّة لتُعاينَ النتائجَ السّاخنة الكارثيّة.



أوردت منظمةُ العفو الدولية، في تقريرها، استخدامَ العدوّ الاسرائيلي للفوسفور. هذا ما كانت أكّدتْه أيضاً «هيومن رايتس واتش» بعد «التحقّق من صحة فيديوات وروايات شهود، في غزة وجنوبيّ لبنان، عن قذائف فوسفور... يتحوّل إلى ستار دخاني أو سلاح قادر على التسبّب بحروق شديدة ذات أمد طويل». تعريفاً، وحسب وكالة الموادّ السّامة وتسجيل المرضى «إنّ الفوسفور الأبيض هو مادّة صلبة شمعيّة. رائحتها تُشبه الثوم. يُصنَّع من صخور الفوسفات. يتفاعل سريعاً مع الأوكسجين ويشتعل بسهولة». أمّا عسكريّا، «فيُستعمل في تصنيع أنواع كثيرة من الذخائر».


كما يحضر في صناعات مختلفة «لإنتاج حمض الفوسفوريك وغيره من المواد الكيميائية المستخدَمة كأسمدة، وإضافات غذائية، ومكوّنات تنظيف». استُخدم لأوّل مرّة، وَفق كتاب عن القومية الإيرلندية والعنف السياسي، على «يد الإيرلنديّين في القرن التاسع عشر». ورويداً رويداً، أخذ هذا السلاح مكانَه في المشهدية العسكرية في الحربين العالميَّتين. وانتشرت نارُه في هشيم السنوات الثلاثين الأخيرة بحجّة إخفاء حركات الجنود أو للإضاءة. لن ندخل بأنواع الفوسفور وتركيباته. في مدرسة الحروب التي تَنقُش على حجر التاريخ بطباشير الدّم، لا مكان للغة الكيمياء والعلوم. نستأذن بالخروج من صفوفها، وندخل إلى صفّ الوقائع والتأثيرات السّلبية.

على أرض الواقع اللبنانيّ

منذ اشتعال جبهة الجنوب، تتعاون «المنصة الوطنية للإنذار المبكر» التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلميّة مع الوزارات المعنيّة والمؤسسات المهتمّة بهدف الرصد. الأرقام والمعطيات تابعت وستُتابع الأضرارَ اللاحقة بالغطاء النباتي جرّاء القصف الاسرائيلي للمناطق الجنوبية. وتُفنِّد الخرائطُ والجداول المناطقَ العقارية المتضرِّرة، وشدّةَ الحرائق وطبيعة الأشجار والنباتات المُستشهدَة. في آخر تقرير صادر في 17 تشرين الثاني، بلغت المساحات المحروقة 514 هكتاراً.


في حديثها لـ»نداء الوطن» تُوضح الأمينة العامة لـ»المجلس الوطنيّ للبحوث العلميّة» د. تمارا الزين أنّ «المعلومات يتمّ تحديثُها أسبوعياً بعد عملية رصد دقيقة تعتمد على العناصر البشرية المتواجدة في الميدان من دفاع مدنيّ، إتحاد بلديات صور، الكشاّفة ووسائل الإعلام...». وتُربَط هذه الوقائع بمعطيات الحرائق التي يتتّبعون مساحتَها وحركتَها بالاعتماد على الأقمار الصناعية. تلفت د. زين إلى أنّ الأسابيع الأولى سجّلت ذروةَ الحرائق. ولم تسبّبْها كلَّها قذائفُ الفوسفور الأبيض. «فالقصف المكثَّف حتى بالقذائف والصواريخ الكلاسيكيّة يُشعل مساحاتٍ كبيرة خاصةً مع طبيعة الغطاء النباتيّ والطقس الجافّ الدافئ». هذا المسار في المتابعة والرصد ما زال في بدايته. القصف الاسرائيلي المستمرّ يمنع العملَ على الأرض وإجراء مسوحات أكثر تنوّعاً تحلّل وتفصّل. فتُعطي صورة واضحة بعد أخذ عيّنات من الأشجار والتربة والمياه.

الزين: نرصد الأضرار ونزوّد بها الوزارات



توازياً، نبّهت الجمعياتُ البيئية ومنها «الحركة البيئية اللبنانية» المواطنين العائدين إلى قُراهم الحدوديّة في فترات وقف إطلاق النار. وطالَبتهم بعدم الاحتكاك بالغطاء النباتيّ والتربة والاحتراز من الحيوانات ومصادر المياه. نائب رئيس «الحركة البيئية اللبنانية»، المهندس سليم خليفة يشدّد على أنّ الاحتياط ضروريٌّ جداً. «فالتلوّث الناتج عن الفوسفور طويلُ الأمد. يتراكم على الأسطح. ويتفاعل بنتائج كارثيّة». يتسرّب إلى الجسم عن طريق الاستنشاق، الملامسة أو الابتلاع. قد يؤدي إلى التهاب رئويّ، تلف القصبات الهوائية، يخترق العظام، ويُصيب أعضاءً كالكبد والقلب. كانت «المفكّرة القانونية» قد رصدت حوالى مئة إصابة ناتجة عن التعرض للفوسفور. «توزّعت بين حالات اختناق وحروق. وتمّت معالجتُهم». هو عدوّ كيميائي لا يُظهر نفسَه دائماً. «قد يتسرّب إلى المياه الجوفية. يستقرّ في الآبار والبِرَك. أيضاً يؤثّر على خصوبة التربة وحياة الغطاء النباتي الذي - وحسب خليفة - رصدتْه الحركة البيئية بتعاونٍ مع وزارتي الزراعة والبيئة والمجلس الوطني للبحوث العلمية لمدّة شهر. «جنّدْنا مرصدَنا إلى المنطقة الحدودية بمراقبة يومية وتواصل مع 54 قرية». يصف خليفة الحرائقَ الناتجة عن القذائف بعمل ممنهَج. «أُبيدت ملايين وملايين من الأشجار. يريد العدوّ تحويل الأرض إلى جرداء ميّتة». لكنّه يشدّد على أنّ كلّ تهديم بيئيّ سيُواجَه بتأهيل شجرة شجرة. «سنعيد ثوب الأرض ولونَه بدعم المؤسسات المحلية والدولية بعد كلّ المعاينات والتحاليل اللازمة. وتعويلُنا بشكل أساسي على شجر السنديان سريع النموّ».


خليفة: الضّرر يطال النظام البيئي والإنسانيّ



 عــلــى الأرض الــقــانــونــيــة


تؤكّد د. زين أنّ المجلس «يزوّد الدولة اللبنانية بكلّ الداتا والمعلومات. والوزارات المعنيّة تعمل على تحضير شكوى تُرفَع إلى الأمم المتحدة. وتكون هذه الداتا دليلا مُوثَّقاً يمتِّن الشكوى. فلا تُقابلُ بالنقض». وكانت وزارتا الزراعة والخارجية قد أعلنتا أنّ الشكوى ستطالب بإدانة اسرائيل لاستخدامها الفوسفور الأبيض وتدميرها المتعمَّد للنظام البيئي والزراعي. تأمل زين حصولَ المتضرّرين على التعويضات. ويعتبر خليفة أن هذه الشكوى «تصون حقَّ لبنان وصوتَه غير المستسلِم». وبين الأمل والصوت، لن نغوص في التفاصيل القانونية الجَدليّة المتعلّقة بمادة الفسفور وأهدافها العسكرية. لن نحرقَ عيونَكم باتّفاقيات دُعِّمت منذ عشرات السنوات، وببروتوكولات عن الحظر، التحريم والتبرير، الأسلحة، المعاناة والأوجاع. هذه الأوجاع، في القواميس الإنسانية والأدبية، تُقدَّس وتُروى بماء الذهب والتعب والغضب. أمّا في القواميس الدوليّة، فيُسجَّل الوجع ابناً عاقاً في لوائح شطب تُصدرها إمبراطوريات الجبروت والمواثيق.


MISS 3