كما كل خميس حملت خلطتي السحرية إلى الفرن كي يتولّى معلّم أحمد تنفيذ أربع أو خمس مناقيش وإخراجها ودبلجتها. تطلع المنقوشة من فرنه لتحرّك كل المشاعر الصباحية الهامدة. «متل العادة؟» سأل، أي «قد ما بيطلعوا» أجبت بإيماءة اختصاراً وتجنباً لفتح حديث مع أحمد.
بادرني: تعبنا ولقينا.
استفسرت: شو لقيت يا أحمد؟
أجاب نافخاً صدره، نافشاً ريشه، رافعاً جبينه إلى الخلف: فتنا عالأمم المتحدة يا أستاذ؟ ما عم تسمع أخبار؟
قلت: لا والله هذه الأيام أسمع فقط غياث ديبرا. كيف دخلت «أبو حميد» على الأمم المتحدة؟
أشار بيده إلى المناقيش السود، المفروشة على الطاولة أمامه: دخلنا إلى الأمم المتحدة من خلال صناعة المنقوشة وأنت آخر من يعلم.
لم أتورّط بالحديث أكثر بعدما أشعرني أحمد بتقصيري المهني. كيف لم أتابع حدث إدراج اليونيسكو المنقوشة اللبنانية على لائحة التراث العالمي، وأنا من شرب قبل 13 سنة الفخر بلعات بلعات؟ ذاك اليوم البعيد حطّمنا كلبنانيين الرقم القياسي لأكبر كأس نبيذ بارتفاع يوازي ارتفاعي عن سطح البحر محمولاً على كتفي كليف ألكسندر بقطر 1.65 سنتيمتر. وإن جئت على ذكر أكبر جاط تبولة وأطول سيخ كباب وأكبر قرص فلافل فستسبقني العبرات.
لنعد إلى المنقوشة الـ»راسخة في الهوية» اللبنانية كما وصفتها المنظمة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي للبشرية. كبرت المنقوشة في عيني كمواطن، ولو خيرت بينها وبين «باغيت» فرنسية لاخترت الباغيت، بين المنقوشة والبيتزا النابوليتانية تبّاً للزعتر والسماق والسمسم وما تُسبّبه من حرقة على مداخل المِعد، وتبقى أضرار المناقيش شغل البيت محدودة أمام تلك الخارجة من فرن أحمد مشبعة بزيت «باب تالت»، لا هو زيت سيارات محروق ولا هو زيت قلي أسود. أما مناقيش الكشك والقورما والجبن فتؤكل على مسؤولية الشاري.
المهم أن حدث المنقوشة الأممي، وما رافقه من احتفاليات جمعنا بعدما كاد القرار1701 يتسبب في نزاع في ما بيننا كأهل وأحبّة. مواقف كثيرة صدرت في لبنان والخارج، وما يجدر التوقف عنده ما قاله الملحق الثقافي لبعثة لبنان لدى اليونيسكو بهجت رزق لوكالة الصحافة الفرنسية: «المنقوشة عابرة للطوائف»، أي أن اللبناني «يتبقّطها» مشروحة من فرن مار شربل أو مقمّرة من مخابز الأيتام أو سوداء من عند chez ahmad من دون تحفّظ.
مرة في الأسبوع أشتهي تناول منقوشة «تنغمش» القلب وتحرّك الحواس. أما بخصوص خلطتي السحرية فسأناقش مضمونها ومكوّناتها وتقنياتها وأبعادها على هامش أعمال الدورة العادية المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة أو في قمة الـ»بريكس».