جوزيف حبيب

"عار" 24 حزيران و"عرس" 17 آذار!

8 كانون الأول 2023

02 : 00

"الطبق الأخير" لـ"طبّاخ بوتين" لم يُعجب "القيصر" (رويترز)

ترتبط تواريخ معيّنة بأحداث تاريخية مفصلية تُحفر في ذاكرة من عايشوها، بل تترك أحياناً كثيرة أثراً عميقاً في صفحات التاريخ للأجيال القادمة. لم يكن يوم السبت في 24 حزيران من هذا العام يوماً عاديّاً على الإطلاق في تاريخ روسيا الحديث، حين أطلق قائد مجموعة «فاغنر» المرتزقة يفغيني بريغوجين تمرّداً عسكريّاً على موسكو، ليدفع الثمن الأغلى ويُقتل مع رفاقه بعد نحو شهرين من «نصف مغامرته»، وتحديداً يوم الأربعاء في 23 آب، بإسقاط طائرته الخاصة قرب قرية كوجينكينو في منطقة تفير، شمال غرب موسكو.

«رحلة» بريغوجين الأخيرة كانت متّجهة من موسكو إلى مسقط رأسه سان بطرسبرغ، وهي للمناسبة مسقط رأس «صانعه» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً. لم يتمكّن بريغوجين الذي قاتل باسم «الأمّة الروسية» في أوكرانيا، من بلوغ مدينته الأحبّ على قلبه، لكنّها عادت مبدئيّاً واحتضنت جثمانه في مقبرة بوروخوفسكوي. شوّه «طبّاخ بوتين» صورة «القيصر» الذي لا يُقهر في 24 حزيران، بعدما كان قد ردّ بعضاً من الاعتبار للهيبة الروسية عندما احتلّت «فاغنر» باخموت، ولو بكلفة بشرية مرعبة، بعد سلسلة هزائم مذلّة للجيش الروسي في الميدان الأوكراني.

الضرر غير المنظور الذي ألحقه بريغوجين في «هيكل» النظام الروسي هائل، خصوصاً أنّ تمرّده المُباغت «انفجر» في وجه بوتين الذي كان غضبه مضاعفاً من أحداث ذاك النهار المشؤوم على «بلاد القياصرة»، لأنّ مُطلق «مسيرة تحقيق العدالة وتحرير الشعب الروسي» هو «صديقه»، خرّيج سجون الاتحاد السوفياتي الذي استطاع صعود «سلّم النفوذ» سريعاً من بائع للنقانق إلى رجل أعمال ثري، بمساعدة بوتين ورعايته، قبل أن يُحوّله «مستنقع الدم» الأوكراني من «ثعلب محنّك» إلى «ذئب جريح» أشعل «حرباً» ضدّ القيادة الروسية.

دخل بريغوجين قلوب الكثير من الروس، قبل مماته وبعده. يتذكّره «الوطنيون» كيف كان يصف التطوّرات الميدانية في أوكرانيا، كما هي على حقيقتها، خلافاً لأكاذيب «بيروقراطيي» وزارة الدفاع الفاضحة، متحدّثاً بصوته الخشن ولكنته الشعبية ونبرته العفويّة المعهودة المشبعة بالكلام البذيء والعبارات النابية في حقّ كلّ من يعتبره «مقصّراً» في الحرب، مهما علا شأنه. كان لافتاً في 24 حزيران، الاستقبال الشعبي العفوي الذي حَظي به بريغوجين في مدينة روستوف أون دون، مقرّ القطاع الجنوبي للجيش، بعدما أوقف «زحفه العسكري» على بُعد نحو 200 كلم من العاصمة الروسية، ليعود أدراجه بوساطة بيلاروسية، التي اتّضح أنّها لم تكن سوى «حكم إعدام» مؤجّل في حقّه.

يُعتبر بريغوجين «رجل العام» الحالي عالميّاً بلا منازع، إلّا أنّه يبقى «الانتحاري الجامح» الذي خسر «معركته الأخيرة» في «صراع العروش» ودفع حياته على «مذبحها». كُرّم بريغوجين في كلّ أنحاء روسيا برسائل التعزية وأكاليل الورود وإضاءة الشموع خلال تجمّعات أُقيمت له ورفاقه، رغم حساسية وداعه علانية أمام أعين النظام، فيما أكمل بوتين عهده محاولاً تخطّي هذه «الصفحة السوداء» في «سيرته الذاتية»، فأشرف على صمود بلاده اقتصاديّاً في وجه العقوبات الغربية، وحرص على مواكبة تحسين وضعيّة جيشه في الميدان الأوكراني، فضلاً عن انكبابه على إعادة تفعيل حضوره الديبلوماسي على الساحة الدولية.

ينتظر بوتين بفارغ الصبر تاريخ 17 آذار 2024، موعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة التي ستُنظّم بُعيد الذكرى الثانية لغزو أوكرانيا (24 شباط 2022). صحيح أنّ الرئيس الروسي لم يترشّح رسميّاً للانتخابات حتّى اللحظة، بيد أن التعديلات الدستورية عام 2020 فُصّلت على قياسه لتسمح له نظريّاً بالترشّح مرّتَين أخريَين للرئاسة، وبالتالي إمكانية البقاء في السلطة حتّى 2036، بينما يطرح مراقبون علامات استفهام جدّية حول شرعيّته الشعبية وحجمها، ونفوذه داخل النظام الروسي ومدى صلابته. إن لم تطرأ مفاجآت، يسعى بوتين إلى إعادة الاعتبار لصورته ومكانته خلال «العرس الانتخابي» وفق «التقاليد الروسية» في 17 آذار، فهل يمحو هذا التاريخ المنتظر «عار» 24 حزيران؟


MISS 3