سجيد فريد شابو

المواجهة الصينية - الهندية وخرافة "الحرب الباردة الجديدة"

18 حزيران 2020

المصدر: International Diplomat Magazine

02 : 00

تعليقاً على المواجهة الحدودية المستمرة بين الصين والهند، دعا تقرير جديد في صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الحكومية الهند إلى عدم التورط في المواجهة الأميركية الصينية الكبرى. ترافقت هذه النصيحة مع تحذير ضمني مفاده أن الانحياز إلى الولايات المتحدة في "الحرب الباردة الجديدة" سيدمّر اقتصاد الهند ومصالحها في المنطقة. يحمل هذا التقرير دلالات بالغة الأهمية، فهو يثبت أن بعض صانعي السياسة الصينيين (أو ربما كلهم) يعتبر المواجهة الصينية الهندية الراهنة جزءاً من عواقب استعداد الهند لإخضاع الصين للرغبات الأميركية، بدل اعتبارها من الخلافات الحدودية المتعددة التي نشأت بين البلدين منذ ترسيم الحدود بعد الحرب الصينية الهندية في العام 1962. الأهم من ذلك هو أن التقرير يكرر الخطاب الصيني عن بدء عصر "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين.

لا يولي معظم الخبراء الغربيين أهمية كبرى للفكرة المبالغ فيها حول إطلاق حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى، لكن تحاول وسائل الإعلام الصينية، وحتى صانعو السياسة والمحللون في بكين، الترويج لخطاب "الحرب الباردة الجديدة". يبدو هذا التوصيف محاولة فاضحة لفرض أمر واقع على العالم: أصبحت الصين قوة عظمى راسخة وتشكّل ثاني قطب بارز في المنافسة على تقاسم السلطة عالمياً. يترافق هذا الخطاب مع تداعيات فورية أخرى. يمكن حل المواجهة الراهنة بين الهند والصين بالوسائل الديبلوماسية، لكن سيتأثر مستقبل السلام بين الطرفين بقدرة الهند على تنفيذ سياستها تجاه الصين بطريقة مستقلة، لا تحت تأثير التحالف المتنامي بين الولايات المتحدة والهند.

سيكون اعتبار المواجهة الصينية الهندية الراهنة جزءاً من اللعبة الجيوسياسية العالمية مثالاً على رؤية استراتيجية قصيرة النظر. لا تتواجه الهند والصين للمرة الأولى على "خط المراقبة الفعلية" الذي بات يشكّل الحدود الواقعية بين البلدين غداة الحرب الصينية الهندية في العام 1962. في آخر 50 سنة، تنازع البلدان على ترسيم الأراضي على طول الحدود الصينية الهندية. هما يختلفان أيضاً حول موقع "خط المراقبة الفعلية" ميدانياً في أكثر من عشرة أماكن في منطقة "لداخ"، بالقرب من الحدود بين بوتان والصين، وفي منطقة "أروناتشال براديش".





يظن بعض الخبراء أن إصرار الهند المستجد على بناء طرقات فرعية وبنى تحتية داعمة على طول "خط المراقبة الفعلية" قد يكون الدافع وراء المواجهة الراهنة. لذا يمكن اعتبار التجاوزات الصينية محاولة لمنع الهند من إنشاء بنى تحتية دائمة قد تعطي نيودلهي تفوقاً استراتيجياً. هذا الرأي حيّر بعض المحللين الأمنيين في الهند لأن توسّع القوات العسكرية بقرارٍ من الصين على طول "خط المراقبة الفعلية" بدأ حين قيل إن بناء معظم الطرقات الهندية والمسارات الفرعية بالقرب من تلك النقاط أوشك على الانتهاء. بالتالي، يتراجع احتمال أن تغفل الصين عن عمليات البناء تلك وألا تدرك ما يحصل ميدانياً لأن بكين تتباهى دوماً بقدراتها الاستطلاعية، براً وجواً. على صعيد آخر، استمر تطوير الطرقات والبنى التحتية من الطرفَين على طول "خط المراقبة الفعلية" لتقوية موقعهما الاستراتيجي طوال سنوات. أدت هذه التطورات إلى نشوء مناوشات محدودة لكنها لم تُسبّب يوماً تجاوزات حدودية كبرى في نقاط متعددة. في هذا السياق، كتب أستاذ العلوم السياسية تايلور فرافيل أن نطاق الحشد الصيني ومستواه وموقعه غير مسبوق. اعترف وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ من جهته بتمركز عدد كبير من القوات الصينية على الجانب الآخر من "غلوان نالا" وإقدام المقاتلين الصينيين على تنفيذ طلعات جوية ضمن مسافة 30 كيلومتراً على جانبهم من "خط المراقبة الفعلية".

يتعلق تفسير آخر بمحاولة الصين إثبات قوتها لتجديد مصداقيتها وترميم صورتها التي تشوّهت نتيجة التداعيات المستمرة لوباء كورونا العالمي. يزعم عدد من العلماء ومراقبي الشؤون الصينية أن الانتكاسات الاقتصادية التي واجهتها الصين بسبب فيروس "كوفيد-19"، إلى جانب اقتصادها المضطرب أصلاً، دفعت بكين إلى ارتكاب التجاوزات الأخيرة بهدف تحويل الأنظار من المشاكل المحلية إلى عدو خارجي واستعراض قوتها أمام العالم. كذلك، يُلمِح بعض الخبراء في شؤون جنوب آسيا إلى إحدى نظريات المؤامرة التي تعتبر المواجهة الراهنة خطوة استباقية محتملة من الصين لكبح رغبة الهند المزعومة في خوض مغامرة عسكرية في المناطق الباكستانية الشمالية التي يمر بها الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني ("غيلجيت" و"بالتستان").





لكن يبقى هذان التحليلان جزءاً من التوقعات والفرضيات ولا دليل واضح على حصول تحركات مماثلة ميدانياً. كذلك، لا يعكس هذا النوع من الآراء الخطاب السائد في الأوساط الصينية الداخلية. تجنبت الصين تصعيد المواجهة الراهنة على الحدود عبر تخفيف وطأة الخطاب القومي والامتناع عن اتخاذ موقف صارم من هذه المسألة. قد تكون هذه الاستراتيجية مفيدة لتجنب أي تكاليف باهظة أمام الرأي العام في حال اضطر الصينيون للعودة إلى ظروف ما قبل الأزمة. حتى النظام الاستبدادي الصيني يتأثر بالتكاليف التي يمكن أن يتكبدها إذا تراجع عن مواقفه أمام الرأي العام المحلي. خلال أزمة "دوكلام"، شعر عدد كبير من الصينيين بأن بكين خسرت حرب التوقعات لأنها تراجعت بنظر الرأي العام الداخلي عن موقفها المعلن بإنهاء الأزمة. كذلك، لا تظن القيادة الصينية أن الوباء الأخير انعكس على مكانتها الدولية. حتى أن الكثيرين في الحزب الشيوعي الصيني يعتبرون الأزمة العالمية الراهنة، لا سيما آثار "كوفيد - 19" المدمّرة على الاقتصاد الأميركي، فرصة مناسبة للمطالبة بمكانتها العالمية كقوة عظمى، ما يُمهّد لإنهاء حقبة التفوق الأميركي والانتقال نحو عالم ثنائي القطب.

لا بد من تقييم العدائية الصينية في سياق الخطاب الناشئ داخل الصين، باعتبارها القطب الثاني من العالم الثنائي الجديد. يعتبر الزعيم شي جين بينغ الوقت مناسباً لاستبدال مفهوم «الصين الناشئة» ببلوغ الصين مكانة القوة العالمية العظمى. برأي العالِمة إليزابيث إيكونومي، ترتكز «الثورة الثالثة» التي أطلقها شي جين بينغ على تجاوز المقولة الشائعة في عصر دنغ شياو بينغ «خبّئ قوتك وانتظر وقتك»! من وجهة نظر الرئيس الصيني، يتعين على الصين أن تطالب بمكانتها في خطط تقاسم السلطة على الساحة العالمية. لذا تدخل المواجهة الراهنة على الحدود في إطار المعطيات الجيوسياسية العالمية. تحاول الصين تصوير الأزمة كجزءٍ من لعبة القوى العظمى في «الحرب الباردة الجديدة». تعتبر وسائل الإعلام الوطنية الصينية والخبراء في الشؤون الصينية الدعم الأميركي أحد الدوافع الأساسية وراء صرامة الهند وعدائيتها في التعامل مع مشاكلها الحدودية مع الصين. حين طلبت الصين من الهند ألا تسمح للولايات المتحدة بالتلاعب بها، أرادت بذلك أن تؤكد على أن المنافسة الحقيقية التي تخوضها تضعها في مواجهة الولايات المتحدة، لا الهند. يبدو أن هذه المحاولة غير المباشرة للدخول إلى نادي القوى العظمى، عبر استعمال خطاب «الحرب الباردة الجديدة»، بدأت تعطي ثمارها. تأثّر عدد كبير من الخبراء الغربيين بهذا الخطاب وبدأوا يعتبرونه واقعاً ملموساً.





تلقّت الهند من جهتها دعماً كبيراً من الولايات المتحدة خلال مواجهة "دوكلام" في العام 2017 وفي الأزمة الراهنة. تتماشى الأصوات الغربية المتزايدة التي تدعو الولايات المتحدة إلى بناء تحالف استراتيجي عميق مع الهند، على المستويين الاقتصادي والدفاعي، مع الفكرة الناشئة التي تعتبر الهند حليفة طبيعية للولايات المتحدة ودرعاً منيعاً ضد الصين في آسيا. قد تشكّل هذه المواقف مصدر دعم هائل لمكانة الهند في المنطقة، ومع ذلك يجب أن تتوخى نيودلهي الحذر أثناء سيرها في هذا الطريق. ستكون "الحرب الباردة الجديدة"، إذا تحققت على أرض الواقع يوماً، مختلفة بالكامل عن الحرب الباردة التي شهدها القرن العشرون. لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالمكانة الطاغية التي كانت تستفيد منها منذ عقود. حتى أن دورها كقائدة للنظام الليبرالي الدولي انهار منذ وقت طويل. ولم يعد الشركاء الأوروبيون يعتبرونها حليفة جديرة بالثقة. يكفي أن نقول إن الشكوك المرتبطة بنظام الردع الأميركي الواسع خلال الحرب الباردة أصبحت أعلى مستوى بكثير اليوم. بالتالي، لن تستفيد الهند من الاتكال على جهة واحدة في هذه الظروف، بل عليها أن تعالج مشاكلها الثنائية مع الصين بطريقة مستقلة، وهو ما تحاول فعله راهناً، ومن دون أن تقع ضحية الخطاب الصيني.

ستستفيد الهند استراتيجياً من التعامل مع المواجهة الراهنة باعتبارها مسألة ثنائية لا ترتبط بـ"الحرب الباردة الجديدة" المزعومة، حتى أن هذه المقاربة قد تُضعِف أيضاً جهود الصين الرامية إلى تحديد الخطاب الذي يرسم لعبة القوى العظمى، وتكبح مساعيها لرفع مكانتها والتحول إلى قطب جديد في خطط تقاسم السلطة عالمياً. تستند آليات الصين غير المباشرة للمطالبة بمكانة القوى العظمى إلى قدرتها على فرض نفسها أولاً كقوة إقليمية طاغية. لكن يصعب أن تتقبل الدول الإقليمية إعطاء الصين هذه المكانة نظراً إلى خلافاتها العالقة مع معظم البلدان المجاورة لها. حين تستغل الهند نقاط قوتها، ستحرم بكين من المساحة الاستراتيجية التي تحاول كسبها عبر تصوير الأزمة الراهنة كجزءٍ من "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين. لهذا السبب، يجب أن تُعتبر هذه الأزمة مجرّد خلاف ثنائي بين الدولتَين المتجاورتَين وأن يتم التعامل معها على هذا الأساس.


MISS 3