جيفري سونينفيلد وستيفن تيان

بوتين ليس من ضمن "الفائزين" هذه السنة

30 كانون الأول 2023

02 : 00

يُغادرون روسيا لتجنّب استدعاء عسكري للحرب ضدّ أوكرانيا | 28 أيلول 2022

قد تكون المرحلة الراهنة من أسوأ اللحظات التي تمرّ فيها أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في شباط 2022، فقد وصل الوضع العسكري في ساحة المعركة إلى طريق مسدود على ما يبدو، ويرزح الدعم السياسي الغربي تحت ثقل الاختلالات السياسية، وبدأت الحرب المستمرّة في الشرق الأوسط تُحوّل الموارد والاهتمام إلى تلك المنطقة.

مع ذلك، يبالغ بعض المحللين المتشائمين في الصحافة الغربية في تقدير قوّة عدو أوكرانيا، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى إن أحد الصحافيين في صحيفة «وول ستريت جورنال» ذهب إلى حدّ اعتبار بوتين من «الفائزين هذه السنة». لكن لا يمكن اعتبار جميع الظروف القائمة في مصلحة بوتين، ولا يمكن التخلي عن التدابير الفاعلة للضغط عليه. هذا الأسبوع، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن مغادرة أكثر من ألف شركة متعدّدة الجنسيات من روسيا ترافقت مع نتائج عكسية، فاستفاد منها بوتين وأعوانه.

عملياً، تشير جميع الأدلّة المتاحة إلى تكاليف باهظة بسبب هجرة الشركات. تكشف البيانات الاقتصادية بكل وضوح أن الاقتصاد الروسي دفع ثمناً باهظاً بسبب خسارة تلك الشركات. يتابع بوتين من جهته إخفاء المعلومات التي تطلبها إحصاءات الدخل القومي في روسيا لأنه يعجز على ما يبدو عن التباهي بأي إنجاز حقيقي.

لن تزيد ثروات روسيا أو بوتين عبر نقل أصول لا قيمة لها. صادر بوتين بعض الأصول من شركات آسيوية وغربية، لكن تخلّت عنها معظم الشركات بكل بساطة، فخفّضت قيمة الأصول بمليارات الدولارات، ثم استفادت من هذه الخطوة حين ارتفعت قيمتها السوقية بدرجة كبيرة بعد انتشار خبر رحيلها من البلد. لا تكتفي روسيا بمقاضاة الشركات الأجنبية بسبب مغادرتها، علماً أن رحيل شركتَي «إكسون موبيل» و»بي بي» وضع حداً للتكنولوجيا اللازمة لمتابعة عمليات الاستكشاف، بل ذهبت شركة النفط العملاقة الروسية «روسنفت» إلى حدّ مقاضاة وكالة «رويترز» لأنها نقلت هذا الخبر. وصف تقرير ميداني نشره موقع «ذا جورنال» اختلالات الإمدادات الهائلة التي بدأت تغلق المصانع الروسية في مختلف القطاعات، ما أدى إلى اعتقال الصحافي البطل الذي وثّق هذه الحقيقة والحُكم عليه مؤخراً بالسجن لمدة تسعة أشهر.

في ما يلي قائمة بالإحصاءات الاقتصادية المؤكدة.

هجرة المواهب

خلال الأشهر الأولى التي تلت بدء الغزو، هرب حوالى 500 ألف شخص من روسيا، معظمهم من العمال المثقفين والماهرين تقنياً، وهي فئة لا تستطيع روسيا تحمّل خسارتها. وخلال السنة اللاحقة، تضخّم ذلك العدد ووصل إلى مليون شخص على الأقل. وفق بعض التقديرات، خسرت روسيا 10% من يدها العاملة الإجمالية في قطاع التكنولوجيا بسبب هذه الموجة غير المسبوقة من هجرة المواهب.

هجرة الرساميل

استناداً إلى تقارير البنك المركزي الروسي، سُحِب عدد قياسي من الرساميل الخاصة (253 مليار دولار) من روسيا بين شباط 2022 وحزيران 2023، أي أكثر من موجات هجرة الرساميل السابقة بأربعة أضعاف. وبحسب بعض التقديرات، خسر البلد 33% من العدد الإجمالي لأصحاب الملايين المقيمين في روسيا حين قرّر هؤلاء الأفراد الهرب.

خسارة التكنولوجيا والمهارات الغربية

انتشرت هذه المشكلة في قطاعات أساسية مثل التكنولوجيا واستكشاف الطاقة. اضطرّت شركة «روسنفت» وحدها مثلاً لإنفاق حوالى 10 مليارات دولار على النفقات الرأسمالية خلال السنة الماضية، وفق البيانات التي كشفتها بنفسها، أي ما يساوي نفقات إضافية بقيمة 10$ مقابل تصدير كل برميل نفط. يتزامن هذا الوضع مع استمرار المشاكل في مشاريع التنقيب عن النفط في القطب الشمالي، علماً أنها كانت تتكل بشكلٍ شبه كامل على التقنيات والخبرات الغربية.

وقف شبه تام لدخول الاستثمارات الخارجية المباشرة إلى روسيا

توقّفت الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تصل إلى روسيا بشكل شبه كامل. سجّل شهر واحد فقط تدفقات إيجابية خلال 22 شهراً منذ بدء الغزو، علماً أن تلك الاستثمارات كانت تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً قبل بدء الحرب.

خسارة الروبل كعملة قابلة للتحويل والصرف

مع استمرار هرب الشركات العالمية المتعددة الجنسيات بهذه الوتيرة الهائلة، لم يتبقَ ما يمنع بوتين من فرض قيود صارمة وغير مسبوقة على عملة الروبل بعد بدء الغزو، بما في ذلك منع المواطنين من إرسال المال إلى حسابات مصرفية في الخارج، وتعليق سحب الأموال النقدية من الحسابات بالدولار إذا كانت تتجاوز عتبة العشرة آلاف دولار، وإجبار المصدّرين على استبدال 80% من مقتنياتهم بالروبل، وتعليق التحويلات المباشرة بالدولار لأصحاب الحسابات المصرفية بالروبل، وتعليق الإقراض بالدولار، وتعليق بيع الدولار في جميع البنوك الروسية. لا عجب إذاً في أن يتراجع حجم تداول الروبل بنسبة 90%، ما يجعل الأصول الروسية بالروبل بلا قيمة وغير قابلة للصرف في الأسواق العالمية.

منع الوصول إلى أسواق الرساميلتبقى أسواق الرساميل الغربية أعمق وأرخص مصدر للرساميل وأكثرها سيولة لتمويل الشركات وأخذ المجازفات. منذ بدء الغزو الروسي، لم تتمكن أي شركة روسية من إصدار أسهم أو سندات جديدة في أي أسواق مالية غربية، ما يعني أنها مضطرة للجوء إلى مصادر التمويل المحلية، مثل البنوك الحكومية التابعة لبوتين، للحصول على قروض بفوائد ربوية (يتابع سعر الفائدة القياسي ارتفاعه، وقد وصل إلى 16%). وفي ظل هرب الشركات المتعددة الجنسيات، لا تجد المشاريع التجارية الروسية أي مصادر بديلة للتمويل أو أي مستثمرين عالميين يمكن الاتكال عليهم.

تدمير هائل للثروات وانهيار قيمة الأصول

بسبب الهجرة الجماعية للشركات العالمية المتعددة الجنسيات، انهارت قيمة الأصول في مختلف القطاعات في روسيا، حتى أن القيمة الإجمالية لبعض الشركات المملوكة للدولة تراجعت بنسبة 75% مقارنةً بالمستويات المسجّلة قبل الحرب، تزامناً مع انخفاض قيمة بعض أصول القطاع الخاص بنسبة 50%، وفق تقارير صحيفة «تايمز».

تشمل هذه القائمة جزءاً بسيطاً من التكاليف التي يتعامل معها بوتين بعد انسحاب أكثر من ألف شركة عالمية من البلد. هي لا تأخذ في الاعتبار الأضرار التي يواجهها الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك سقف الأسعار الفاعل الذي حدّدته وزارة الخزانة الأميركية. كان أكثر من ثلثَي الصادرات الروسية يتركّز في قطاع الطاقة، لكن تراجعت هذه الكمية الآن إلى النصف. نتيجةً لذلك، أصبحت روسيا، التي لم تكن تزوّد الاقتصاد العالمي بأي سلع تامّة الصنع، سواء كانت صناعية أم استهلاكية، مشلولة اليوم. هي لا تُعتبر قوة اقتصادية عظمى، إذ يسهل تأمين معظم موادها الخام من مكان آخر. ترتكز آلة الحرب بكل بساطة على مبدأ المزاحمة الذاتية في الشركات التي تسيطر عليها الدولة في الوقت الراهن.

استناداً إلى بياناتنا الاقتصادية الوافرة، أصبح الحُكم على الوضع ممكناً: أدّت هجرة أكثر من ألف شركة عالمية بوتيرة غير مسبوقة إلى شلّ آلة حرب بوتين. في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ أوكرانيا، يخطئ من يطرح تحليلات تفاؤلية أكثر من اللزوم، لكن لن يكون التشاؤم المفرط صائباً أيضاً.

MISS 3