تتجاوز القراءة الثقافية لعام 2023 المشهدَ الثقافيَّ وأحداثه وعناوينه، إلى ما يجري في العالم والمنطقة ولبنان. وما يجري كبيرٌ ومؤثّرٌ وكأن الكوكب والإنسان على مفترق طرق وأمام أسئلة ضخمة. وليس ما يحصل في غزّة صوراً عابرة لحرب مستمرّة منذ عقود. وما يُرتكب هناك ليس أقسى الحروب وأكثرها دموية وخرقاً للقوانين والأعراف التي توافقت عليها الدول والأمم. إنه صدمة أخرى للإنسان والثقافة، ولا يُعرف متى يستوعبانها وإذا ما كانا قادرين على ذلك. هذا ما تقوله مساهمات هؤلاء المثقّفين. وقد اخترناهم كي ينظر كلٌّ منهم من زاويته وتجربته، لعل التقييم يكون واقعياً والرؤية تكون أوسع وأصدق من السياسة وكلامها. وهم: الشعراء زاهي وهبي وجوزف عيساوي ومحمد ناصر الدين، الكاتب والمسرحي عبيدو باشا، مديرة دار «الساقي» رانيا المعلم، والموسيقي زياد سحّاب.
زاهي وهبي: لحظة مفصلية في التاريخ
لا ينفصل المشهد الثقافي في لبنان والعالم العربي عن المشهد العام في الكوكب برمته حيث منطق السوق يطغى على كل شيء. فالخطاب الإعلامي والإعلاني الذي تتوجه به الشركات الصناعية والتجارية العملاقة العابرة للحدود والقارات، والمحتوى الذي يملأ الميديا الحديثة بوصفه «صناعة»، وذريعة الرايتنغ والترند التي تتذرع بها شركات الإنتاج الكبرى، وتلكؤ المؤسسات والجهات المعنية بالشأن الثقافي عن لعب دور حقيقي منتج وغير فولكلوري أو مهرجاني، كل هذا لا ينفصل عن المسار الانحداري الذي تشهده الحضارة الإنسانية برمتها لا الثقافة وحدها. انحدار «تتوّجه» جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني برعاية دولية مسعورة تشير إلى مستوى البؤس الذي بلغته الإنسانيّة المعاصرة.
المتابع للمحتوى الإعلامي والإعلاني الذي تعتمده الشركات المعولمة بوسائطها المختلفة، والمساهِمة من خلف الستائر في صناعة الرؤساء والحكومات، ورسم السياسات وتحديد الأهداف والمصالح، يلاحظ أنها لا تخاطب البشر بوصفهم بشراً وإنما بوصفهم زبائن. مجرد زبائن تتم مخاطبة غرائزهم قبل عقولهم.
معظم المحتوى المذكور يركّز على عناوين ذات صلة بما يُشبع الغرائز المادية: الجنس، الأكل، الشرب، السفر، الموضة، المقتنيات الفارهة، الجسد والقوام الممشوق… إلى آخره. فيما يغيب كلياً عن تلك الحملات الضخمة التي تشكّل الذوق العام أي محتوى يُرَوِّج (مثلاً) لكتاب جديد، لمعرض رسم، لمسرحية ذات مضمون، لعمل غنائي أو موسيقي من خارج الصندوق.
لا يختلف حال الدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية والأغاني والكليبات المصورة، فهي (إلا ما ندر منها) تقدّم المحتوى نفسه: فتيات فاتنات، طائرات خاصة وسيارات باهظة الثمن، قصور وبيوت فاخرة، ملابس تحمل علامات تجارية «سينيه»، على إيقاعات موسيقية مكررة ومستهلَكة، وكلمات بلا معنى تجتر الموضوعات نفسها.
لست ممن يرذلون الجسد ورغباته، ولا ممن يحتقرون الغرائز الجسدية التي فُطِرَ البشر عليها. لكنني أؤمن بأن الإنسان لم يُخلَق كي يسعى إلى إشباع غرائزه الجسدية والمادية فحسب. إذ لو اكتفى بهذا الأمر لَأمسى كائناً متوحشاً أسوَة بالكائنات التي لا يعنيها سوى الجنس والطعام والشراب. ولعل هذا «المنطق الحيواني» هو الذي جعل كيان الفصل العنصري الإسرائيلي يستسهل ارتكاب مذابحه الوحشية ضد أبناء فلسطين.
أرى إلى الإنسان بوصفه أرقى من أن يكون مجرد مخلوق غريزي، هو خليفة الله في الأرض بحسب التعبير القرآني، وعلى صورته ومثاله وفق المفهوم المسيحي. وأياً كانت عقيدته أو انتماؤه هو أسمى من أن يكون مجرد «زبون» في سوبر ماركت عالمي هائل حجمه بحجم الكوكب. كوكب يحظى وحده (حتى الآن) بنعمة الحياة، يريد المسيطرون عليه جعل تلك الحياة مجرد فسحة لإشباع البطون والغرائز، ودفع الناس إلى التخلي عن التفكير أو السعي نحو السمو الإنساني والروحي.
الثقافة بمعناها العميق هي المضاد الحيوي للعولمة المتوحشة ولمنطق السوق السائد. لذا، نحتفي بكل منتج إبداعي حقيقي أياً كان شكله الفني، وأياً كان جنسه أو جنسيته، ونسعد بكل الفسحات المضيئة وسط هذا الظلام الحالك الذي يُراد لنا أن نظنّه ضوءاً، وننحاز لكل مثقف يقف صامداً في مواجهة تيار الرداءة والابتذال، ونحلم بأن العام الجديد يحمل جديداً ينقذ البشرية من الدرك الذي بلغته. ورهاننا على الهبّة الإنسانية التي ولدت جراء الصدمة الهائلة الناجمة عن الوحشيّة الإسرائيلية غير المسبوقة والمدعومة من أنظمة وحكومات انكشف زيف شعاراتها وازدواجية معاييرها. ولعل التظاهرات التي تعمّ عواصم العالم ومدنه تشكّل بداية صحوة ثقافية تعيد إلى العالم بعضَ رشده وصوابه.
ولا أرى حدثاً ثقافياً بارزاً يستطيع تجاوز «هولوكوست غزة»، وما ستتركه من أثر في النصّ الإبداعي. فما يحدث الآن لا يقل أبداً (إن لم نقل يتجاوز) نكبة 1948 ونكسة 1967 وغزو لبنان في 1982 وسقوط بغداد في 2003. إنها لحظة مفصلية في التاريخ، وفي النصّ. إذاً، لا يمكن لأي مثقف، وأي ثقافة، أن تتجاوز ما حدث ويحدث.
جوزيف عيساوي: غزّة ومباركة المثليّين ومعارض الكتاب
أهناك حقاً حدث ثقافيّ لبنانيّ خارج الخيبة وسقوط البنى السياسيّة والثقافيّة والمصرفيّة، وترهّل بل وتفكّك مؤسّسات النظام اللبناني كلها؟ أليست الخيبة استكمالاً لعقدين من التسويات المخاتلة ضمن نظام عمالة الطوائف للخارج، واستتباعها ورعاياها لزعماء أفّاقين وسفهاء، استباحوا الدستور والقوانين، والممتلكات العامّة والخاصّة، والكرامة، والسيادة، والشرف، والاستقلال؟
هذا العام شهدنا، مثلاً، وللسنة الثامنة، معرضاً ثالثاً للكتاب في بيروت عليه بصمة الشيعيّة السياسيّة المهيمنة، بعد معرضين معهودين و»عريقين» واحد تغلب على تنظيمه نكهة مسيحيّة في أنطلياس، وآخر سنّيّة في البيال.
هل أدلّ من هذا على واقع حال الثقافة اللبنانيّة الذي يزداد إيغالاً في الخصوصيّات «الثقافيّة»؟
وبعد حدث غزّة الرهيب والمتوالي فصولاً، هل أدل على الخيبة والسقوط من انقسام النخب الثقافيّة، لبنانيّاً وعربيّاً، بين من يدين عمليّة 7 تشرين الأول 2023 وحركة «حماس»، ساكتاً عن الردّ الإسرائيليّ «الممتنّ» تلك العمليّة التي تتيح تنفيذ خطط ترحيل أهل القطاع والقضاء على بوادر ترسيخ دولة فلسطينيّة، وبين مؤيّد للعمليّة باعتبارها تهديداً جوهريّاً وعمليّاً لـ»الكيان»، غير عابئ بعشرين ألف ضحيّة نصفهم تقريباً من الأطفال، وبأن المآلات العسكريّة لن تثبّت الدولة المتناهَبة من أبنائها أيضاً، بل وجعلتها استحالة على المديين الحاليّ والمتوسط؟
على حدودنا (بل وفي جنوبنا) سلسلة مجازر وجرائم حرب وإبادة من يدينها يؤيّد قوى إقليميّة ودوليّة تسحق شعوبها وجيرانها، كما وتهيمن على الدولة اللبنانيّة من خارج الدستور والمؤسّسات، ومن لا يدينها ينحاز إلى دول لا تنفكّ تعلن دعم سيادتنا ولكنها تفرض علينا تنازلات عن حقوقنا في الثروة البحريّة من الغاز، وتتلاعب بعملتنا الوطنيّة عبر استتباعها حاكم مصرفنا المركزيّ السابق (حامل تكريماتها قبل أن تنقلب عليه) بل والقطاع المصرفيّ الفاسد واللصّ، وهذا وذاك كمثالين وحسب. فأين النخب الثقافيّة، والأكاديميّة، والإعلاميّة العاملة على تفكيك منظومات السيطرة والنهب، داخليّاً وخارجيّاً، في تشابك مصالحها، وتنازعها أو اتفاقاتها الظرفية، ودوماً على حساب البلد وأهله واقتصاده ودوره في الإقليم؟
ولئلا أُطيل، ثمّة حدث ثقافيّ تقدّميّ لافت في المؤسّسة الأقدم في العالم صدر قبل أيّام عن مجمع العقيدة والإيمان، وصادق عليه بابا الكاثوليك فرنسيس، يقضي بجواز مباركة الكهنة للأزواج المثليّين في الكنائس، ولو من دون طقوس الزواج الذي «لا يمكن أن يكون إلا بين رجل وامرأة». هذا بينما يقفز اليمين المتشدّد إلى مقاعد الحكم في «القارّة العجوز» أوروبا وفي العالم، وبينما المقر البطريركيّ المارونيّ الصيفيّ كان يستقبل قبل أسابيع اجتماعاً وزاريّاً يخلُص إلى أنّ المثليّة «تهدّد العائلة والدين والهويّة الوطنيّة». فهل من تهافت وسقوط أبلغ وأكثر شناعة لهذه الزمرة المتسلّطة ميليشيويّاً على الدولة، كما وعلى موقف مؤسّسة كانت سبقت الثورة الفرنسية إلى فرض إلزاميّة تعليم الذكور والإناث في جبل لبنان؟
ختاماً نقول كلَّ عام وسقوطنا بألف خير.
عبيدو باشا: لا شيء سوى نزق السكون والمهرجانات العربية
لا شيء الآن، سوى نزق السكون، بعد صخب الأجنحة وهي تغزل رقص المثقفين والفنانين في سمواتهم البعيدة. كل مسرحية حدث في الستينيات والسبعينيات. خصبت الحرب الأهلية أشكال التعبير في مسارات امتلكت تراتيلها الخاصة. كل مسرحية حدث في زمن الحرب. لأن الجميع سار فوق مياه اللوعة الهوجاء، بعد أن جرى رصد ما يستحق التحية في تجربة المسرح العالمي. القطاف عظيم، من بريشت إلى جان فيلار. من بروك إلى جوليان بك وجوديت مالينا في الليفنغ تياتر. من بيكت إلى بيرندللو ويونسكو ومايرخولد وغروتفسكي وماياكوفسكي وشحادة وفاختنكوف وجيرار فيليب ودورنمات. عشرات الأسماء مِن مَن امتلكوا جهودهم الحسنة في جعل أيام المسرح أياماً سعيدة. تلك سيرة لم تتكرر. تلك سيرة لن تتكرر. بعد أن انفضّت الملائكة عن الفضاء المحلي بعد انفضاضها عن فضاء العالم. الاتصال مثال لا إشارة. لعب الاتصال دوراً حاسماً في تصويب طرق القوافل الشاردة إلى بحيرات ملح المسرح، حيث استغرقت الأيدي الخشنة والناعمة في وضع الملح في الحمالات المحلية. الأحلام حافز. حتى أن المسرحي ظهر باستعداده الكلي للعمل وفق شروط الثورة البلشفية، حين تقاضى المسرحيون البلاشفة أكياس حنطة مقابل سرحانهم في مسرح الثورة. ثم، هناك القوة الإقتصادية والقشعريرة الاجتماعية والولائم السياسية. فقد المجتمع اللبناني كل ذلك. فقد الاتصال حين فقد قواه الإقتصادية. كما فقد حوامل الصراع بين المعسكرين. حرب ضروس بين الاثنين. بينها حرب الأفكار. ذلك أن لا أشكال في غياب الأفكار. لا شيء اليوم سوى العرج في تشابه الأعمال. لا شيء سوى العرج من سيطرة قوى الإقتصاد الجديدة على الفضاء المسرحي. الأن جي أوز. لم يبق سوى من يحكي عن غربته من المسرحيين المؤسسين من روجيه عساف إلى أنطوان ملتقى. ثم، شكيب خوري. أخذ القسم الأكبر من المؤسسين لهاث الموت الأزرق. ريمون جبارة ومنير أبو دبس وجلال خوري وعاصي ومنصور الرحباني ونبيل الأظن وغيرهم. زياد الرحباني في مداره البعيد. كركلا يقتص من نفسه في نزيف لا حدود له مع فقدان الوله بالتجديد في صالح مسخ الشكل من خلال التنادم مع النجاحات القديمة. ثلاثي أضواء المسرح، غدي وأسامة ومروان الرحباني يداومون مع عرافات الغيب. كسحت المونودراما المظهر الثقافي. لن يكتشف الشبان تفاصليهم في عروضهم. عروض تتمطى ليوم أو يومين على منصات المدينة. ثم، تنقضي بدون أثر، حتى أثر الحلازين. مسدودة الطرق المؤدية إلى النور.
أبرز الأحداث قوة المهرجانات العربية على الاستمرار. مهرجان الهيئة العربية للمسرح ومهرجان قرطاج ومهرجان المسرح التجريبي في القاهرة ومهرجان الشارقة. آخر المساحات المشتركة في عواصم العرب. إنها تمتد كما يمتد الشفاء بعد مرض أو اكتئاب. مدارات، مزارات، لا تريد أن يقف المسرح على منعطفات الذكرى.
رانيا المعلم: الكتاب يواجه أزمة حقيقية
أعتقد أن وضعنا الثقافي العربي واللبناني في أسوأ حالاته، وكل ما يحدث من مؤتمرات ومعارض ومهرجانات وغير ذلك لا يتعدى كونه بهرجةً. والمشكلة الأكبر هي غياب الاعتراف بواقعنا وبما وصلنا إليه. لا يوجد نقاشات ثقافية جدية، والإنتاج الفكري والثقافي العربي اليوم ضحل، وإن كان الكم كبيراً. وهذا الأمر نواجهه في صناعة الكتب العربية. ليس هناك اليوم أقلام أو مفكرون.
بالنسبة إلي، الحدث الأبرز بعيداً من الشعارات وخصوصاً «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، هو ما يجري في فلسطين المحتلة. إنه الحدث الأبرز على الصعيد الإنساني والثقافي. فللمرة الأولى منذ خمسين عاماً، تعود قضية فلسطين إنسانية وعادلة. تعود لتُطرح ليس عربياً فحسب وإنما عالمياً أيضاً. وعلى الرغم من أنني لا أعوّل كثيراً على الرأي العام العالمي ووسائل الإعلام العالمية، ولكنّ ثمة أمراً جديداً بدأنا نلمسه، وهو مهم جدّاً، ويتعلق بمواقف الناس العاديين من هذه القضية، وكيف بدأت، والظلم الذي لحق بهذا الشعب من قتل وإبادة وتهجير وتدمير.
أمّا الحدث الأهم على صعيد النشر، برأيي، فهو قرار مقاطعة معرض فرانكفورت للكتاب، الذي نشارك فيه كل عام، وهو في الأساس معرض لبيع حقوق الترجمة وشرائها. وقد اتُخذ القرار في ضوء انحياز إدارة المعرض إلى جانب إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية.
وضع الكتاب تحصيل حاصل للوضع الثقافي. وهو وضع ليس جيداً. فإضافة إلى الاضمحلال الثقافي الذي وصلنا له، هناك الوضع الاقتصادي الخانق للناس قبل أن يكون خانقاً لدور النشر. نحن خسرنا بلداً مثل مصر سكّانه أكثر من مئة مليون شخص. لا نستطيع بيع كتبنا هناك بسبب تراجع القدرة الشرائية للناس. في سوريا، الوضع مبكٍ على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. الوضع مأسوي إلى درجة أن الناس عطشى للقراءة ولا تستطيع شراء الكتب. ونحن عاجزون عن إيصال الكتب إلى هناك وتوفيرها بسعر مقبول للقارئ. أين نبيع الكتب؟ اليمن مقفل. في العراق التزوير ضرب الكتب. لذا، سوق الكتب مأزوم. هناك أزمة حقيقية.
زياد سحاب: الحرب تتسلل إلى الموسيقى وإنتاجها
حرب غزة، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2023، تُفقدك القدرة على تذكر ما جرى قبلها، وتنسيك أن تقوم بالجردة السنوية التي تساعد في تقييم ما حُقق وما لم يُنجز، على المستويين الخاص والعام في البلد. مفاجأة الحرب وقسوتها جذبتانا إلى متابعة الأخبار بألم، لدرجة أنه عندما نتذكر أحداثاً مرّت خلال هذا العام، نشعر بأنها حدثت قبل سنوات.
أثر الحرب قويٌّ علينا، وسيستمر كذلك، ليس من الناحية الإنتاجية فحسب، بل في بعديه النفسي والثقافي. وقد بدأ ذلك يظهر في عملي، خصوصاً في ألبوم رولا عازار. إذ شعرت بأن أثر الحرب يتسلل إلى الموسيقى التي أعمل عليها، ولم يؤخر الإنتاج فحسب. وبدأت في 2023 بمشروع هو حلم حياتي، باشرت وضع خطط «كورال أطفال بيروت»، وسوف يُطلق في العام 2024. وهو استعادة لتجربة عمي سليم، مع كورال الأطفال في بيروت، وكان حالة ثقافية جميلة في الثمانينات، وقد انطلقت منه ريما خشيش. هذا تركيزي الأساسي في المرحلة المقبلة. وسيحتضن مسرح «دوّار الشمس» هذا الكورس، وسيوفر الدعم الذي نحتاج إليه.
محمد ناصر الدين: احتفاء بكتب ووداع راحلين ونشر شعر ومذكرات
بدأت سنة ٢٠٢٣ بخبر حزين، هو رحيل الباحث والمترجم الفرنسي أندريه ميكيل الذي لم يرضَ بلقب المستشرق. درس اللغة العربية وتَرجم «كليلة ودمنة» وقصائد لأبي العتاهية ومجنون ليلى. والانجاز الأكبر له كان مع الشاعر الجزائري جمال الدين بن الشيخ، فتعاونا وإصدرا «ألف ليلة وليلة» في ترجمة جديدة (2005). لذلك، خسارته كبيرة.
حدث ثانٍ مهم في الشهر الأول من العام هو وفاة تشارلز سيميك، وهو أحد أبرز أصوات المشهد الشعري العالمي. وله جملة أحبها هي «التاريخ كتاب في فن الطبخ، الطغاة هم الطباخون، يكتب الفلاسفة قوائم الطعام، القساوسة هم الندلاء أو الندل، العسكر هم المتبجحون، أما الغناء الذي تسمعه فهو للشعراء وهم يغسلون الأطباق في المطبخ». ترى في الجملة ثقل التاريخ وضغطه على القصيدة.
ولفتني في لبنان 2023، كتاب/ قصيدة «الكلمة أكبر من بيت» لعباس بيضون. العنوان يحمل في معان عدة. مارتن هايدغر يقول أن تكون شاعراً يعني أن تقيس. عندما يقول عباس بيضون الكلمة أكبر من بيت يعني هناك قياس. الشعر لغة مقايسة بين النسبي والمطلق. وتجربة عباس الفريدة تظهر هنا. يتوغل داخل مناطق لم يدخلها أحد.
هناك أيضاً رشيد الضعيف وروايته «الوجه الآخر للظل». أظن أن اتجاهه نحو الميثولوجيا نقلة في عمله. ما زال رشيد قادراً على أن يُدهشنا.
ولا يمكن إلا التوقف عند رواية علوية صبح «إفرح يا قلبي»، التي تتابع فيها الحفر في قلب الهويات اللبنانية. تتناول علوية ثلاثة أجيال لعائلة طرابلسية الجد كان عروبياً، وفيما ابنه الدركي محايد يتّجه أحد الأحفاد إلى التيارات الإسلامية ويقتل أخاه اليساري. جميل هو انتقال علوية من الجنوب اللبناني إلى الشمال.
عربيّاً، احتفيت بكتاب «في انتظار خبر إن» للطاهر لبيب. تفاجأت أن عالم السوسيولوجيا يكتب رواية عن بيروت. العين التي رصد فيها هذا الباحث التونسي بيروت ثاقبة، وعاشقة ومثقفة. كنت خائفاً ألا يستطيع أن يُذيب المرجعيات الثقافية والسيسيولوجيا في قالب من السرد. وقد فوجئت بأنه استطاع أن يذيب الحمولة المعرفية الكبيرة التي يملكها بلغة مفهومة.
وهناك عمل مترجم مهم جداً: «تسع مقالات حول دانتي» لخورخي لويس بورخيس (ترجمة: رضوان ناصح وزينب سعيد). الكاتب والمكتوب عنه عملاقان. قراءة بورخيس «الكوميديا الإلهية» أمر عظيم، وهو يعتبرها «الكتاب الأكثر صلابة في الأدب». يدخل بورخيس في أحشاء هذا العمل، ويطرح أسئلة عجيبة، مثل لماذا يوضع بطل الأوديسا في الدائرة الثامنة من الجحيم بين المستشارين الخونة؟ ثم يقرأ أساطير اليونان في ضوء «الكوميديا الإلهية».
وفي النصف الثاني من العام، كان الحدث الأهم هو رحيل ميلان كونديرا. هو ليس شخصاً عادياً في الأدب. كبرنا على رواياته وانتقاده الأنظمة الشمولية بطريقة عجيبة.
وهناك حدث جلل عربياً هو رحيل زكريا محمد. شاعر لم يخرج من عباءة محمود درويش. شاعر جدد في قصيدة النثر، وكتب فلسطين بطريقة أخرى.
وهناك رحيل حبيب صادق الذي ينبغي ألا ننساه. كان أديباً مجبولاً بالثقافة العاملية. ابن مرجع ديني اتجه نحو اليسار. شكل حالة ثقافية بشخصية المقاتل اليساري. والاهم هو نشره آثار آخرين.
بعد ذلك أتت أحداث غزة وطوفان الأقصى. وقد استوقفتني مواقف عدد من المثقفين العرب الفرنكوفونيين، مثل الطاهر بن جلون وكمال داوود وبو علام صنصال وياسمينة خضرا (محمد مولسهول)، تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. والغريب في كتاباتهم أنهم اعتبروا أن المشكلة بدأت في 7 تشرين الأول 2023، وغفلوا عن القضية الفلسطينية والاحتلال وعذابات الشعب الفلسطيني.
في المقابل، حصل ما حصل مع الكاتبة عدنية شبلي، التي تنبش في رواية «تفصيل ثانوي» الأرشيف الإسرائيلي واغتصاب فتاة بدوية في النقب نُكل فيها وعُذبت. لقد ألغى معرض فرانكفورت، بعد حرب غزة، تكريم شبلي التي مُنحت جائزة جمعية الأدب الألماني.
وبالنسبة إليّ، أصدرت مجموعة شعرية هي الثامنة وتحمل عنوان «أرني وجهك أيها الهارب» عن «دار الجمل»؛ وحقّقت مذكرات العلامة السوري محمد كرد علي وصدرت عن «دار الرافدين».