رافاييل كوهين وجيان جانتيل

المقاومة الأوكرانية تدفع الولايات المتحدة نحو رفض مفاوضات السلام مع روسيا

4 كانون الثاني 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جندي أوكراني بالقرب من قرية روبوتين في منطقة زابوريزهيا في أوكرانيا | ١ تشرين الأوّل ٢٠٢٣

منذ بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا، تلاحقت الدعوات التي تحثّ الولايات المتحدة على التفاوض مع روسيا. وفي ظل استمرار هذه الحرب، يتغيّر منطق التفاوض في كل مرحلة جديدة: تعجز أوكرانيا عن الفوز، لذا يحتاج الغرب إلى التفاوض؛ أو نجحت أوكرانيا في ضمان صمودها لكنها لا تستطيع حصد منافع أخرى، لذا حان وقت المحادثات؛ أو بدأت أوكرانيا تنتصر سريعاً، لذا يجب أن يحصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مخرج معيّن لمنعه من تفجير العالم؛ أو بدأت الحرب تصبح مكلفة أكثر من اللزوم، لذا تبرز الحاجة إلى تدخّل الدبلوماسيين. لكنّ أحدث نسخة من المبررات التي تدعو واشنطن إلى التفاوض لإنهاء الحرب تتعلق بزيادة القلق من إرسال المساعدات إلى أوكرانيا وسط الأميركيين، لا سيما المعسكر الأكثر دعماً للحزب الجمهوري. في غضون ذلك، يبدو الهجوم الأوكراني المضاد في ساحة المعركة أصعب وأبطأ مما توقّع الكثيرون، وحتى مناصرو كييف بدؤوا يعترفون الآن بأن أي انتصار محتمل لن يتحقق قبل مرور سنة على الأقل.



تجاوز عدد الضحايا، وفق بعض المصادر، عتبة النصف مليون جندي بين قتيل وجريح. ونظراً إلى هذه الأوضاع القاتمة التي تخيّم على الجبهات السياسية والعسكرية، ما الذي يمنع محاولة إبرام اتفاق معيّن لإنقاذ حياة عشرات آلاف الناس وتوفير مليارات الدولارات؟

لكن عند التعمّق بتفاصيل الوضع، يسهل أن تنهار مبررات التفاوض مع روسيا. في ما يخص تبدّل وجهة الرأي العام الأميركي، تكشف بعض استطلاعات الرأي تراجع الدعم لأوكرانيا فعلاً. لكن تتعلق المسألة الأساسية بالأسباب التي جعلت الأميركيين يغيرون رأيهم. ربما يشعر البعض بالقلق من كلفة الصراع، لكن تذكر التحليلات أيضاً أن تراجع الدعم، وسط الجمهوريين على وجه التحديد، لا يتعلق بقضية أوكرانيا بحد ذاتها بل يعكس شكوكاً عامة بأداء الرئيس الأميركي جو بايدن وسياساته مع اقتراب الموسم الانتخابي.

يؤكد استطلاع أجراه «معهد ريغان» في شهر حزيران الماضي مثلاً على هذه الفرضية. عندما أخبر منظّمو الاستطلاع المشاركون المترددون بأن الولايات المتحدة «أنفقت حوالى 24 مليار دولار على المساعدات العسكرية لأوكرانيا»، أي ما يساوي 3% من ميزانية الجيش الأميركي، وأن «أوكرانيا لا تزال تسيطر على 83% من أراضيها، وأن الحرب أضعفت القوة العسكرية الروسية وقدرتها على تهديد حلفاء الناتو وفق تقييمات الاستخبارات الأميركية»، زادت هذه المعلومة الدعم لأوكرانيا بنسبة 18% وسط الجمهوريين و12% وسط الديمقراطيين. قد لا يتعلق تراجع الدعم لأوكرانيا إذاً بالسياسات المعتمدة بقدر ما ينجم عن الرسائل السلبية المرتبطة بالحرب وغياب المعلومات عنها.

يشير دعم أوكرانيا في الكونغرس الأميركي إلى فرضية مشابهة. منع عدد من الجمهوريين في مجلس النواب إرسال مساعدات إضافية إلى أوكرانيا، لكن يبقى موقف مجلس الشيوخ مختلطاً. وحتى في ذروة المعركة الأخيرة على الميزانية، أصدرت مجموعة من القادة في الحزبَين الجمهوري والديمقراطي داخل مجلس الشيوخ، بما في ذلك زعيم الأقلية ميتش ماكونيل، بياناً مشتركاً لدعم أوكرانيا وتأييد استمرار الدعم لها. وفي وقتٍ سابق من الأسبوع نفسه، صادق مجلس النواب على تخصيص مساعدات لأوكرانيا بقيمة 300 مليون دولار، تزامناً مع إحباط محاولتَين أخريَين لمنع إرسال المساعدات إلى أوكرانيا.

رغم الانقسامات السائدة بين المشرّعين إذاً، لم يتّضح بعد موقف الكونغرس من التفاوض مع روسيا. تتعدد العناصر التي تبرر وقف المساعدات إلى أوكرانيا في مجلس النواب، لكن مارس عدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ضغوطاً عكسية على إدارة بايدن ودعوها إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة ووضوحاً في مسألة إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.

لكن عند النظر إلى الجمهوريين الذين يتنافسون على الترشّح للرئاسة، يتّضح لنا أن العدد الذي ينتقد إدارة بايدن لأنها لا تساعد أوكرانيا يساوي عدد من يؤيدون المفاوضات. من وجهة نظر سياسية محض، لا يمكن أن توحّد أي سياسة بالإجماع مختلف الأفرقاء في مبنى الكابيتول.

لم يعد المنطق العسكري الذي يبرر التفاوض مقنعاً. حتى الآن، لم يحقق الهجوم الأوكراني المضاد الإنجازات الكبرى التي حققتها معارك كييف أو خاركيف أو خيرسون لصالح أوكرانيا في السنة الماضية. لهذا السبب، من الطبيعي أن يتناقش المؤرخون حول منافع القرار الغربي بإبطاء أنظمة التسلح على أمل منع التصعيد، تزامناً مع منح الجيش الروسي الوقت الكافي لترسيخ مكانته. لكن رغم هذه الانتكاسات، بدأ الهجوم المضاد يحرز التقدم، ولو أنه بطيء، برأي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق، مارك ميلي، وعدد من المحللين الخارجيين.

في غضون ذلك، تتعدد المؤشرات التي تثبت تخبّط روسيا على الجبهة المحلية. بعد استقرار الروبل الروسي مؤقتاً منذ انهياره غداة الغزو، تابعت العملة المحلية تراجعها الذي بدأ منذ وقتٍ طويل. يواجه البلد الغني بالنفط الآن نقصاً في الوقود والإمدادات. في الوقت الراهن، تنفق روسيا، وفق الأرقام التي تنشرها بنفسها، ثلث ميزانيتها الوطنية على الدفاع. وتشير استطلاعات الرأي إلى تصاعد الضغوط على الرأي العام الروسي، علماً أن إجراء هذا النوع من الاستطلاعات الدقيقة يبقى صعباً في البلدان الاستبدادية، حيث تسيطر السلطات على المعلومات ويُعاقَب المعارضون. كذلك، بدأ عدد متزايد من أعضاء النخبة الروسية يموت أو يصاب بأمراض خطيرة في ظروف غامضة. لا أحد يعرف متى سينهار الوضع بالكامل، لكن من الواضح أن الضغوط بدأت تتصاعد من جميع الاتجاهات.

في ما يخص الدافع الأخلاقي المزعوم للمفاوضات، لا شك في أن الحصيلة البشرية للحرب مريعة، وتُعتبر خسارة حياة أي شخص مأساة حقيقية. لكن يجب أن تتذكر واشنطن أن الأوكرانيين هم الذين يقاتلون ويموتون. لكل أوكراني أصدقاء أو أقارب تعرّضوا للقتل أو أصيبوا خلال الحرب، وهذا ما يمنعهم من الاستسلام. يؤيد حوالى 84% من الأوكرانيين، وهي أغلبية ساحقة وفق جميع المعايير، متابعة القتال. بالكاد تغيرت هذه النسبة منذ سنة.

تبدو الفكرة التي تدعو الغرب إلى إنقاذ الأوكرانيين من أنفسهم عبر دعم المفاوضات مضللة ومتغطرسة وفوقية. حتى أنها تطرح فرضيات خاطئة عن روسيا وتتجاهل أهدافها الحربية الواضحة والمتكررة. لا يكف المسؤولون الروس وشخصيات عامة أخرى عن الدعوة إلى إبادة أوكرانيا كبلد سيادي. ويذكر تحقيق أجراه مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن «الخطاب المتداول في الدولة الروسية ووسائل إعلام أخرى قد يشكّل تحريضاً على ارتكاب إبادة جماعية». تعهد الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف أيضاً باستمرار الحرب «حتى تدمير الحكومة الأوكرانية بالكامل ونشوء مناطق جديدة إضافية داخل روسيا». في الوقت نفسه، تهدف فيديوات التجنيد العسكري الروسي إلى استمالة المجندين عبر التعهد بمنحهم عقارات في كييف وأوديسا بعد انتصار روسيا ونجاحها في غزو البلد.

على صعيد آخر، لا شيء يثبت أن روسيا ستكتفي بالسيطرة على أوكرانيا. في الفترة الأخيرة، أعلن الجنرال أندريه موردفيتشيف، قائد المنطقة العسكرية المركزية والمجموعة المركزية للقوات الروسية، أن حرب أوكرانيا «لن تقف عند هذا الحد». بغض النظر عن قدرة روسيا على متابعة الهجوم، سيكون هزم موسكو في أوكرانيا أفضل ضمانة لمنع روسيا من تحقيق طموحاتها يوماً.

أخيراً، لم تتغير الظروف التي تمنع التفاوض مع روسيا خلال آخر سنة ونصف: ما من مساحة للمساومة على اتفاق محتمل. تريد أوكرانيا استرجاع بلدها، مثلما ترغب في محاسبة روسيا على ارتكاب جرائم حرب وتلقي تعويضات عن الأضرار التي لحقت بها. في المقابل، تتمسك روسيا بمواقفها في هذه المجالات. حتى أن بوتين احتفل بالذكرى السنوية لضمّ أربع محافظات أوكرانية شرقية عبر الإشادة بسكانها لأنهم «اختاروا أن ينضموا إلى وطنهم الأصلي». تبدو محاسبة روسيا على جرائم الحرب مستبعدة أيضاً، بما أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق بوتين شخصياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب. في غضون ذلك، تبقى التعويضات مستبعدة أيضاً في ظل التوقعات القاتمة بشأن الاقتصاد الروسي، حتى لو وُجِدت الإرادة السياسية اللازمة للتعويض عن الأضرار.

لن تكون دعوة أوكرانيا علناً إلى عقد اتفاق سلام فاشلة فحسب، بل إنها تثبت أيضاً ضعف الإرادة الأميركية. سيكون توجيه هذه الرسالة بالغ الخطورة في ظل امتلاء العالم اليوم بأنظمة استبدادية عدائية ورجعية. تتعدد الأسباب الوجيهة التي تجعل الديمقراطيات الواقعة في مرمى جيرانها الأكبر حجماً، من تايوان إلى دول البلطيق، تعتبر دفاع أوكرانيا الناجح أساسياً لحماية أمنها الخاص.

لا تستطيع الولايات المتحدة إذاً أن تتحرك بشكلٍ أحادي الجانب لإنهاء حربٍ ليست متورطة فيها مباشرةً لمجرّد أنها تعتبر هذا الخيار مناسباً لها سياسياً. قد يجد البعض صعوبة في تقبّل هذا الواقع، لكنّ الضغط على أوكرانيا للاستسلام سيكون خياراً أسوأ بكثير.

MISS 3