ستيفن والت

لا أحد يعرف خطوات روسيا المقبلة

8 أيار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يبدو أن أعضاء نخبة السياسة الخارجية الغربية يجيدون قراءة الأفكار: هم يزعمون أنهم يعرفون نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بدأ كبار المسؤولين والمحللين السياسيين يتكلمون عن طموحاته غير المحدودة ويعتبرون أوكرانيا أول هدف على لائحته.

لكن يطلق هؤلاء الخبراء الغربيون تلك التحذيرات الصاخبة عن تحركات بوتين المستقبلية في محاولة منهم لإقناع الرأي العام الغربي (والكونغرس الأميركي) بتخصيص مساعدات إضافية إلى أوكرانيا وزيادة الأموال لصالح الدفاع الأوروبي. أنا شخصياً أؤيد استمرار تدفق المساعدات لأوكرانيا ودعم أعضاء «الناتو» الأوروبيين لنظام الردع عبر حشد قواتهم التقليدية. لكن يبقى فائض التهديدات الكامنة وراء تلك التصريحات مزعجاً، ويميل البعض إلى اعتبار تلك التوقعات القاتمة حقائق مثبتة، فيُعتبَر كل من يشكك بها ساذجاً أو موالياً لروسيا.

أولاً، يرتكز جزء من القناعات القائلة إن بوتين يحمل طموحات غير محدودة على ادعاء ليبرالي مألوف مفاده أن جميع الحكام المستبدين يكونون عدائيين بطبيعتهم ويصعب ردعهم. هذا المنطق بسيط: يسعى جميع الحكام الديكتاتوريين إلى توسيع نفوذهم. بوتين حاكم ديكتاتوري، ما يعني أنه لن يكتفي بغزو أوكرانيا. يُعتبر هذا المنطق راسخاً وسط النُخَب الليبرالية، لكن تتراجع الأدلة التي تدعمه عملياً. يكون بعض الحكام الديكتاتوريين، من أمثال نابليون أو أدولف هتلر، معتدين متسلسلين خطيرين. لهذا السبب، يُعتبر أي حاكم مستبد تتعارض توجهاته مع أفكار هذا العصر «نسخة أخرى من هتلر». لكن يتبنى حكام ديكتاتوريون آخرون تصرفات إيجابية على الساحة الدولية، مهما كانت تحركاتهم مشينة محلياً. كان ماو تسي تونغ مثلاً طاغية بالنسبة إلى الجميع، وكانت سياساته مسؤولة عن مقتل ملايين الناس من أبناء وطنه، لكنه اكتفى بحرب واحدة لغزو التِبَت في العام 1950. كذلك، خاضت بروسيا في عهد أوتو فون بسمارك ثلاث حروب منفصلة خلال فترة ثماني سنوات، لكن شكّلت ألمانيا الموحّدة التي نشأت في العام 1871 قوة ضامنة للاستقرار خلال بقية مراحل ذلك القرن. في هذا السياق، قال عالِم الاجتماع ستانيسلاف أندريسكي منذ سنوات إن عدداً كبيراً من الأنظمة الديكتاتورية العسكرية يحمل ميولاً سلمية لأن خوض الحروب يستلزم تسليح المواطنين، وقد تُهدد هذه الخطوة سطوة الحكّام على السلطة. بوتين ديكتاتور وحشي يُقدِم على اعتقال خصومه المحليين أو قتلهم ويتورط في أعمال مشينة أخرى، لكنّ هذه الصفات لا تخبرنا شيئاً عن رغبته في غزو عدد من الدول المجاورة لروسيا أو اقتناعه بقدرته على تنفيذ حملات مماثلة. كذلك، لا داعي ليكون الحاكم ديكتاتورياً كي يطلق حرباً غير مبررة، أو مدمّرة، أو غير شرعية. تتعدد الديموقراطيات الليبرالية البارزة التي اتخذت هذه الخطوة في مناسبات متكررة.

ثانياً، لن تكون روسيا مستعدة لإطلاق حروب عدوانية جديدة حين تنتهي الحرب في أوكرانيا أخيراً. تشير تقديرات الاستخبارات الأميركية إلى خسارة أكثر من 300 ألف جندي روسي أو إصابتهم في أوكرانيا، بالإضافة إلى تدمير آلاف المركبات المدرّعة وعشرات السفن والطائرات. تردّد بوتين في إصدار أوامره بتعبئة أعداد إضافية من القوات العسكرية (مع أنه قد يتخذ هذه الخطوة الآن بعد «إعادة انتخابه»)، لأن هذه التدابير قد تُمعن في إضعاف الاقتصاد الروسي وتجازف بتأجيج الاستياء الشعبي. لم يتضرر الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات الغربية بقدر ما تمنى الأميركيون وحلفاؤهم، لكن ستكون العواقب الاقتصادية التي تواجهها روسيا على المدى الطويل حادة. يبقى خوض أي حرب تقليدية طويلة قراراً مكلفاً، وسيكون شنّ حرب أخرى بعد انتهاء الحرب الأولى أكثر تهوراً من قرار بوتين الأصلي بإطلاق ما اعتبره «عملية عسكرية خاصة» وبسيطة. ألا يُعقَل أن يصبح بوتين أكثر حذراً في المستقبل بعد المصاعب التي واجهتها روسيا في أوكرانيا، حتى لو حقق جيشه في نهاية المطاف انتصاراً شاقاً ومكلفاً؟

ثالثاً، لو قرر بوتين غزو أوكرانيا لمنعها من الانتقال إلى المحور الغربي والانضمام يوماً إلى حلف «الناتو»، يعني ذلك أنه قد يُسَرّ بتجنّب هذه النتائج عبر اتفاق سلام يتم إبرامه في المراحل اللاحقة. غالباً ما تخوض الدول الحرب من باب الخوف، لا الجشع، وإذا تراجعت مخاوف روسيا الأمنية، قد تتلاشى أيضاً نزعتها إلى مطاردة بلدان أوروبية أخرى. يُفترض ألا يقتنع أعضاء «الناتو» بهذا الاحتمال بالكامل، لكنه يبقى وارداً بقدر الفرضية القائلة إن أهداف بوتين غير محدودة.

يظن بعض المراقبين في الغرب أن توسيع حلف «الناتو» لم يكن ضرورياً ويُصِرّون على ربط قرار غزو أوكرانيا باقتناع بوتين بوجود جذور ثقافية وتاريخية عميقة ومشتركة بين الأوكرانيين والروس، ما يعني ضرورة أن يتكاتفوا سياسياً على الأقل إذا لم يتوحّد البلدان رسمياً. وفق هذه الفرضية، لم يكن توسيع «الناتو» مرتبطاً بقرار شن الحرب، بل يُعتبر هذا القرار بكل بساطة مثالاً على الإمبريالية الثقافية الروسية التقليدية. لكن توحي هذه الفكرة بأن أوكرانيا حالة فريدة من نوعها برأي بوتين، ولا تنطبق أسباب الغزو الكامنة وراء قراره واقتناعه بسهولة هذه العملية على أي أماكن أخرى. من اللافت أن يتماشى هذا الاستنتاج مع وجهة نظر السفير الأميركي السابق ويليام بيرنز في العام 2008، حين حذّر واشنطن من اعتبار «انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» الأخطر من بين جميع الخطوط الحمراء التي تتمسك بها النخبة الروسية (لا بوتين وحده)». تحمّلت روسيا على مضض جولات سابقة من توسيع نطاق «الناتو»، لكن لطالما تواجدت أوكرانيا في خانة مختلفة بالكامل. بغض النظر عن رأينا بمزاعم بوتين الجامحة حول «الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين»، من الواضح أنه لا ينظر إلى فنلندا، أو السويد، أو بولندا، أو أي بلد آخر، بالطريقة نفسها. قد تشكّل مكانة الأقليات الناطقة باللغة الروسية في دول البلطيق مبرّراً لأي تدخّل روسي لاحق، لكن هل سيجازف بوتين بخوض اشتباك مسلّح ومباشر مع «الناتو» بسبب بلدان يتألف معظم سكانها من أشخاص غير روس ومواطنين يرفضون إعادة دمجهم مع روسيا بشكلٍ قاطع؟

إذا كنا نظن أن بوتين أقدم على غزو أوكرانيا في المقام الأول لأنه يعتبر الروس والأوكرانيين «شعباً واحداً»، يسهل أن نستنتج إذاً أن طموحاته تقتصر على هذه الرغبة دون سواها.

أخيراً، قد تتعثر أي جهود لإنهاء الحرب وحماية أوكرانيا من أي أضرار إضافية بسبب الادعاء القائل إن بوتين هو معتدٍ متسلسل لا يمكن إرضاؤه، وهو مستعد لإطلاق حروب جديدة إذا لم ينهزم بالكامل. إذا كنا نظن أن الهزيمة التامة هي العامل الوحيد الذي يمنع بوتين من شن حرب جديدة، يعني ذلك أننا مقتنعون بضرورة استمرار القتال الراهن إلى أن تسترجع أوكرانيا كامل أراضيها. يتمنى الكثيرون حصول ذلك، لكن تبدو هذه النتيجة أبعد ما يكون عن الواقع مع مرور الوقت، حتى لو كثّف الغرب دعمه للبلد في المراحل المقبلة. لا بد من التساؤل أيضاً: هل اعتذر أيٌّ من المتفائلين المتغطرسين الذين أطلقوا توقعات خاطئة حول الهجوم الأوكراني المضاد في الصيف الماضي على الأخطاء التي ارتكبوها وفسّروا الأسباب التي جعلتهم يخطئون؟

مجدداً، لا تعني هذه المواقف أنني أعرف نوايا بوتين الحقيقية. كذلك، يجب ألا يفترض أحد أن نواياه صالحة أو أنه سيتمسك بالوضع القائم في أوروبا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. أنا أعترض بكل بساطة على جميع الأصوات المؤثرة التي تزعم أنها تعرف حقيقة ما سيفعله بوتين، وهم أشخاص يُصِرّون على متابعة المحاولات لتحقيق أهداف غير واقعية بناءً على تكهنات بسيطة.

إذا انتهت الحرب في أوكرانيا يوماً بنتيجة أقل من انتصار أوكراني شامل، يُفترض أن يرتكز الرد المناسب على السعي إلى حماية البلدان الأخرى من مواجهة مصير مشابه لأوكرانيا مستقبلاً. وبما أن أحداً لا يعرف حقيقة ما سيفعله بوتين في المراحل المقبلة، يُفترض أن يعزز الأعضاء الأوروبيون في حلف «الناتو» قدراتهم الدفاعية ويصححوا نقاط ضعفهم الواضحة. في الوقت نفسه، يجب أن يعترف الأميركيون وحلفاؤهم في «الناتو» بمخاوف روسيا الأمنية المشروعة (تحمل روسيا هذا النوع من المخاوف طبعاً، على غرار كلّ البلدان الأخرى)، ويفكروا بالخطوات المناسبة لتهدئتها. من المتوقع أن يكون هذا النوع من الجهود صعباً ومثيراً للجدل، نظراً إلى الرغبة الكامنة في جعل روسيا تدفع ثمن ما فعلته حتى الآن. لكن ترتكز السياسات الحكيمة دوماً على التطلع إلى المستقبل، ويُفترض أن تُعطى الأولوية لمنع اندلاع أي حرب مستقبلية أخرى. يتطلب هذا الهدف الجمع بين أنظمة ردع جديرة بالثقة وضمانات صادقة كي لا يضطر بوتين أو أي حاكم بعده للتفكير باستعمال القوة، أو كي تتراجع ثقة القادة الروس بتحسّن وضع روسيا عبر اللجوء إلى هذه الوسائل العدائية.

MISS 3