زيزي إسطفان

غرائب الأحزاب في لبنان: موت وتراجع وترشيح

أين البعث والديموقراطي والسلام والشغيلة؟

9 كانون الثاني 2024

02 : 00

مديرية الشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية منشغلة طوال شهر كانون الثاني بتجديد الأوضاع القانونية للأحزاب والجمعيات المرخصة. أكثر من 400 شخص يقفون يومياً بالدور لتقديم الأوراق المطلوبة. رقم يشي بالعدد الهائل للجمعيات والأحزاب في لبنان. ولكن إذا كانت أعداد الجمعيات المرتفعة مفهومة لا سيما بعد انفجار المرفأ، فإن عدد الأحزاب في لبنان يثير تساؤلات، لا سيما أن ستة أو سبعة أحزاب كبرى تتحكم بمعظم مفاصل العمل السياسي في لبنان. فأي دور يتبقى إذاً للأحزاب الصغيرة؟



أسماء لأحزاب ظهرت في السنوات الأخيرة، لم نسمع عنها إلا إبان الانتخابات النيابية لتعود أسماؤها الى الظل بعد انقضاء الانتخابات: حزب «تقدم» الذي أسسه مارك ضو مع آخرين، حزب «لنا» الديموقراطي الاجتماعي الذي وصلت الى البرلمان باسمه النائبة حليمة قعقور، حزب «مواطنون ومواطنات في دولة» وعلى رأسهم شربل نحاس، حزب «سبعة» الذي غاب بشكل شبه كلي عن الساحة السياسية، وحزب الحوار الوطني بقيادة فؤاد مخزومي...

وإذا كان لهذه الأحزاب مرشحون وصل بعضهم الى الندوة النيابية ضمن تحالفات مع قوى أكبر فإن أحزاباً تعرّف عن نفسها بأنها أحزاب سياسية لم يسمع لها أي صوت لا في الانتخابات النيابية ولا قبلها أو بعدها.







وُلدت ميتة

من يسمع اليوم مثلاً بحزب السلام ومؤسسه روجيه إده أو الحزب اللبناني الواعد لمؤسسه فارس الفتوحي او الحزب الديموقراطي المسيحي الذي يرأسه النائب السابق نعمة الله أبي نصر، أو حزب الانتماء اللبناني لمؤسسه أحمد كامل الأسعد، أو الحزب الجمهوري المستقل الذي ينتمي كل أعضائه الى الطائفة الدرزية أو حزب الاتحاد الناصري الهوى...أين هي كلها من العمل السياسي الذي يبقى هدف كل حزب؟

وإذا كان معظم هذه الأحزاب قد ولد ميتاً أو بقي في المهد على أبعد تقدير، فثمة أحزاب كان لها شأن في الماضي لكنها تراجعت بفعل عوامل كثيرة. على رأسها تأتي الأحزاب اليسارية بمختلف أطيافها: من الحزب الشيوعي اللبناني أقدم الأحزاب في لبنان الذي استلم قيادته حنا غريب، الى حركة الشعب بقيادة نجاح واكيم، الى رابطة الشغيلة التي تولى قيادتها زاهر الخطيب وصولاً الى منظمة العمل الشيوعي التي تولى أمانتها العامة محسن ابراهيم وحركة اليسار الديموقراطي الطالعة من رحم الحزب الشيوعي اللبناني.





وكما تراجعت الأحزاب اليسارية كذلك تراجعت الأحزاب القومية وانضوت مع زميلتها اليسارية تحت مظلة 8 أذار والمقاومة الإسلامية التي يحمل لواءها «حزب الله». ولولا صوت علي حجازي الذي يلعلع على الشاشات لاختفى حزب البعث العربي الإشتراكي عن المشهد السياسي في لبنان مثلما اختفى من قبله حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي الذي هو امتداد الجناح العراقي لحزب البعث، أو كما تراجعت حركة الناصريين المستقلين المعروفة باسم «المرابطون» ولو تولى زعامتها العميد مصطفى حمدان وتراجع مثلها الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا يزال يلملم شتاته بعد انشطاره الى جزءين...



علي حجازي







خارج الأحزاب العقائدية والقومية والطائفية ثمة أحزاب تمحورت حول أشخاص برزوا في وقت ما لكنهم لم يستطيعوا أخد الحزب الى أبعد من صورتهم، فتراجع حضور الحزب مع غياب هذه الصورة او تراجع دورها السياسي. فحين نقول مثلاً حزب التضامن فاسم إميل رحمة يختصر الحزب، كما يختصر اسم إيلي حبيقة حزب الوعد. جو لم يملأ فراغ الوالد. واسم وئام وهاب حزب التوحيد العربي ويختصر اسم المير طلال الحزب الديموقراطي اللبناني. حتى حزب الكتلة الوطنية الذي صعد بصعود مؤسسه ريمون إده تراجع نجمه مع غياب عميده رغم تكرار محاولات إحيائه بالوراثة أو بصيغ علمانية متطورة. ويكاد الأمر ذاته ينطبق على حزب الوطنيين الأحرار الذي افل نجمه مع رحيل الرئيس كميل شمعون وإن تمكن من إيصال الابن والحفيد إلى البرلمان.

والغريب في أمر الأحزاب في لبنان انها لا تعتمد على حجمها أو امتدادها أو أعداد المنتسبين إليها لتقدم مرشحين الى المجلس النيابي وحتى الى رئاسة الجمهورية. فتيار المردة الذي ينحصر وجوده فعلياً في الشمال وتحديداً في منطقتي زغرتا وإهدن طُرح اسم رئيسه كاسم أوحد لرئاسة الجمهورية اللبنانية رغم كونه غير مدعوم إلا بنائب واحد لتيار المردة. أمر يناقض مفهوم العمل السياسي للأحزاب في العالم التي تعتمد على نسبة التمثيل الشعبي لتطرح مرشحها الى الرئاسة.





قانون الأحزاب عثماني

حول هذه الغرائب التي تميز المشهد الحزبي اللبناني كان لنداء الوطن لقاء مع د. منى الباشا أستاذة العلوم السياسية في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية وصاحبة بحث موسع وثقته في كتاب حمل عنوان «الالتزام الحزبي في لبنان: مقاربة نفس - سياسية» لمحاولة فهم واقع الأحزاب في لبنان.

عن سؤالنا الأول حول سبب كثرة عدد الأحزاب الصغيرة في لبنان أجابت د. منى الباشا أن المعايير التي يُستند إليها لتصنيف الأحزاب بين صغيرة وكبيرة هي معايير غربية ترتكز على عدد المنتسبين لكن الأمر لا يصح كثيراً في لبنان كون عدد السكان صغيراً ومعظم الأحزاب لا تضم أعداداً كبيرة من المنتسبين لا بل إن النسبة القصوى من المنتسبين وفق الدراسات لا تتخطى 10 الى 12% من عدد السكان. أما السبب الثاني والأهم فيعود الى عدم وجود قانون خاص في لبنان لتنظيم الأحزاب وكيفية عملها إذ لا يزال إنشاء الأحزاب وعملها محكوماً بالقانون العثماني للعام 1905 الذي يعتبر الحزب جمعية، رغم أن إنشاء حزب يختلف في أهدافه وعناصره عن الجمعية إذ إن الهدف الأساسي للحزب هو الوصول الى السلطة. إنطلاقاً من هذا القانون بإمكان أي شخص أن يتقدم بعلم وخبر لإنشاء حزب بدل أن ينشئ جمعية.

في دول العالم تؤكد الباشا وبحسب القوانين، تؤمن الدولة جزءاً من تمويل الأحزاب وبالتالي يكون لها سلطة مراقبتها فيما هذا الوضع لا ينطبق على لبنان حيث لا تمويل للأحزاب من قبل الدولة.



د. منى الباشا


أحزاب بلا محازبين

مفارقات كثيرة تختص بالأحزاب اللبنانية وجدتها الباحثة اثناء تقصيها وضع هذه الأحزاب حيث تبين لها أن معظمها حتى الكبرى بينها تُعدّ نسبة المحازبين فيها ضئيلة مقارنة بنسبة المؤيدين والمناصرين الذين يظهرون التزاماً شديداً حتى أكثر من الحزبيين. والأحزاب اللبنانية تختلف بهذا عن الدول التي تشارك فيها الأحزاب بالعمل السياسي حيث تكون نسبة المحازبين كبيرة إذ أن الأسباب النفسية والاجتماعية تدفع الناس هناك للالتزام بالأحزاب للتعويض عن التباعد الاجتماعي والوحدة، بحيث يصبح الحزب مكاناً للقاءات اجتماعية محببة بينما في لبنان هذا الأمر غير موجود ويبقى الانتماء الطائفي للبناني اشد من التزامه الحزبي وكأن ثمة منافسة في اللاوعي بين الحزب والطائفة ولذلك تبقى الأحزاب ضمن نطاق الطوائف بدل أن تكون عابرة لها.

هنا نطرح سؤالاً بديهياً حول دور الأحزاب الصغيرة وقدرتها على إيصال مرشحين عنها الى الندوة البرلمانية أو الى رئاسة الجمهورية؟ في الدول الديموقراطية تقول الباشا تعتبر الأحزاب ركائز العمل السياسي لكن في لبنان لا يكفي وجود الفرد في حزب كبير أو صغير للترشح الى النيابة او الرئاسة. إذ ثمة عوامل أخرى تؤثر سواء بالترشح الى الانتخابات النيابية أو الرئاسية. فالوزير السابق سليمان فرنجية لم يترشح بقوة تياره وانتشار هذا التيار بل إن قوى أخرى فاعلة في لبنان هي التي رشحته وتؤمن له الأصوات والدليل أن تيار المردة نفسه لم يقم بأية حملة لدعم مرشحه أو تسويق افكاره وعرض برنامجه الانتخابي. وهذا تأكيد على أن الأحزاب في لبنان لا تنطبق عليها التصنيفات التي تعطى للأحزاب في العالم.

لا شك أن الأحزاب التي لها مؤيدون بأعداد كبيرة يمكن أن تأتي بنواب لكن الأحزاب الناشئة في بداياتها يصعب عليها ذلك لكن في لبنان قد تتقاطع عوامل عدة لإيصال مرشحين منها الى الندوة البرلمانية بحيث لا يكون وصولهم بفضل مؤيديهم.









موت الحزب

هل تموت الأحزاب وتندثر؟ ولماذا يتراجع بعضها أو يختفي البعض الآخر باختفاء مؤسسه؟

مبدئياً الأحزاب لا تخضع لدورة حياة معينة ولا تموت طالما وظيفتها ودورها وافكارها مستمرة. وهذا ينطبق على الأحزاب العقائدية أو التي تدور حول شخص مؤسسها. ومعلوم أن 70 الى 80% من المنتسبين الى أي حزب في لبنان إنما يقومون بذلك بسبب رئيس الحزب اي لوجود صورة لهذا الشخص في ذهنهم غير واقعية مرتبطة بثقافتهم وقيمهم تدعوهم الى نوع من التأليه لهذا الشخص إذ ان التصورات الاجتماعية والقيم تلعب الدور الأهم في تكوين التصورات السياسية. والمجتمع اللبناني لا يزال متأرجحاً بين التقليد والحداثة ولا تزال الصورة الطاغية فيه الصورة الذكورية الأبوية التي يعكسها رئيس الحزب ومن هنا وجود أحزاب تتمحور حول الشخصانية وقد تزول بزوال مؤسسها إلا إذا استمرت افكاره ودوره.


أما تراجع بعض الأحزاب ولا سيما اليسارية او القومية وتحولها الى أحزاب صغيرة فتشرحه د. منى الباشا بأنه تطور طبيعي في مجتمع كالمجتمع اللبناني إذ إن دور العائلة كما الانتماء الديني يلعبان دورهما في تحديد الانتماء الحزبي. ولكن حين يكون الأفراد في مرحلة المراهقة قد يذهبون الى نقيض أهلهم ويتوجهون الى الأحزاب اليسارية لكن الثقافة التي تشربوها من الأهل تجعلهم يعودون الى انتمائهم الحزبي التقليدي في مرحلة ما. وكذلك الأمر حين يشعر هؤلاء بالخطر يدق ابواب طائفتهم أو المجموعة التي ينتمون إليها تحدث عندهم ردة وعودة الى الجذور وعند اي تهديد وجودي يظهر ذلك على السطح. وعلى سبيل المثال يمكن القول إن حركة أمل أخذت مناصري منظمة العمل الشيوعي وهذا سلوك طبيعي في المجتمعات يقف خلفه سبب ثقافي نفسي. من جهة أخرى ثمة أحزاب لا تعمل على تجنيد أعضاء جدد وتكتفي بالكوادر التي فيها على غرار حزب الكتلة الوطنية ما يجعلها تتراجع مع الوقت... والحزب الأكبر في لبنان لم يعط الداخلية في 42 سنة لا علماً ولا خبراً.





MISS 3