رفيق خوري

جرائم أغاتا كريستي بلا تحقيق بوارو

10 كانون الثاني 2024

02 : 00

لا مهرب من سؤالين، وسط الغموض الإستراتيجي المتعمد في القرار والوضوح التاكتيكي في الفعل: من يحدد حجم القتال «المضبوط» بين «حزب الله» وإسرائيل في جبهة ثانية لحرب غزة؟ طرفاه المباشران فقط أم أيضاً إيران وأميركا؟ وما يحدد الحجم: الميدان وغرف العمليات أم الكواليس وغرف القرار السياسي والحسابات الإستراتيجية؟ مهما يكن الجواب، فإن لبنان يواجه إلى جانب خطر الحرب خطر معادلة سياسية مفروضة من خارج الشرعية والمصلحة الوطنية: لا شيء قبل ان تنتهي حرب غزة. لا في الفرصة المفتوحة لإستعادة الباقي من الأرض المحتلة وتظهير الحدود البرية عبر الديبلوماسية الأميركية، ولا في الحاجة الى فتح الباب المغلق أمام إعادة الإنتظام العام للمؤسسات عبر إنتخاب رئيس للجمهورية. وليست هذه حال البلدان التي صارت تسمى «ساحات» ضمن «محور المقاومة» بقيادة إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. تلك البلدان، بإستثناء لبنان، تتابع حياتها السياسية في الداخل، وهي تساند «حماس» بشكل مباشر وغير مباشر.

ذلك أن السياسة في لبنان وصلت الى قعر عميق جداً. شيء دون مستوى ما سمتها حنة أرنت «تفاهة الشر». وشيء أبعد من قول توماس هوبز: «غياب أي حكومة أسوأ من حكومة سيئة». جرائم جماعية على طريقة أغاتا كريستي في رواياتها البوليسية المشهورة، وبينها «جريمة على قطار الشرق السريع» و»مقتلة فوق النيل». لكن المفتش بوارو في الروايات يكمل التحقيق الى النهاية ويكشف اللعبة الجماعية. أما هنا، فإن التحقيق معلق في الجرائم الجماعية. المحقق العدلي طارق البيطار مكفوف اليد عن إكمال التحقيق في جريمة إنفجار المرفأ عندما وصل الى الأسماء الكبيرة وكل المتواطئين في جريمة العصر الجماعية. جريمة السطو الجماعي على أموال المودعين في المصارف والتي شارك فيها المسؤولون في المصارف والمصرف المركزي والسلطة بكل أجنحتها، جرى إغلاق الطريق على التحقيق فيها عبر التلاعب بالقانون. لا بل إن المتهمين يقيمون دعاوى إرتياب بحق القضاة ومخاصمة الدولة، وسط الإصرار على تغييب المرجع الذي يجب أن يبت الدعاوى، وهو الهيئة العامة لمحكمة التمييز. شيء ممنوع منذ آلاف السنين عبر القاعدة القانونية اللاتينية القائلة: «لا يمكن القاضي سماع من أفسد وقام بالباطل، ويطالب بحقه من هذا الباطل».

والأخطر هو تخلي الشرعية منذ عقود عن السيادة وقرار الحرب والسلم، لا فقط لطرف داخلي مسلح بل ايضاً لقوى إقليمية ودولية.

فالبلد يبدو كأنه «عقار» يستخدمه كل من لديه مشروع يتجاوزه. والباقون في السلطة لا يجرؤ اي منهم على رفع الصوت والقيام بأي عمل ضد أخذ لبنان الى محور إقليمي وإجباره على دور أكبر منه ومن القوى المتحمسة له، إن لم يكن هؤلاء متواطئين من اجل مصالح ضيقة. وكل الكلام على ضرورة الإسراع في ملء الشغور الرئاسي يقع في فراغ كامل أوسع من الشغور، حيث الهرب الدائم من الإصلاحات المطلوبة لمعالجة الأزمات المالية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية.

كان الشاعر قسطنطين كفافي يقول: «القول إنه سيكون عندك غداً كثير من الوقت هو حكمة كاذبة». لكن المافيا المسيطرة هنا انه تتصرف كأن الزمن كله أمامها، وكلما حان موعد قرار لا بد منه قيل إنه ليس ناضجاً بعد.

MISS 3