شربل داغر

وضاح فارس، القاسي في غيابه

15 كانون الثاني 2024

01 : 58

تأكدَ غيابه عني، ونهائياً هذه المرة، بعد أن كنتُ أتوقع أو آمل حضوره في زيارة جديدة، مثلما حدث لي معه غير مرة في بيروت.

كنتُ قد حادثتُه في مرتين على الأقل عن لزوم إصدار كتاب عنه، وكان موافقاً من دون أي موعد لاحق. كنتُ قد نسيتُ مشروعنا، في مطالع الثمانينيات بباريس، لإصدار مجلة تعنى بالفنون التشكيلية: «مقامات».

من أصول عراقية، لكنه استقر في بيروت.

خرج من بيروت، ليستقر في باريس.

خرج من باريس، ليستقر في برشلونة.

لكنه كان يعود إلى بيروت أحياناً، في زيارات قليلة: كانت قد تغيرت. كان قد تغير.

الفنان الذي جمع في شخصه، في خبرته، في أعماله، صاحبَ صالة العرض المثير أحياناً أكثر من فنانينه الذين يَعرض أعمالهم.

الذي واكبَ مجلة «شعر»، وصنع تصاميم مدهشة لكتب شعرية وقصصية، ومنها لغسان كنفاني.

الذي افتتح صالة عرض: «كونتاكت»، فلمعت بفنانيها، مثلما لمع بدوره في فضاء بيروت المتوقد بين الستينيات ومطالع السبعينيات.

الذي حملَ حقيبة صغيرة وأحلاماً كبيرة إلى باريس، عندما تأكد من وقوع بيروت تحت قبضة خانقة.

الذي افتتح صالة عرض ثانية، «غاليري فارس»، في أحد أعرق الشوارع الباريسية، وعرض فيها: محمد المليحي، وآدم حنين، وفربد بلكاهية، ورافع الناصري، وضياء العزاوي، وفريد عواد وكثيرين غيرهم ممن كانوا يَخرجون للمرة الأولى إلى عاصمة النور.

الذي ساهم في أسواق الفن العالمية (بين «الفياك» و»بازل» وغيرها)، حيث طلبَ- لأول مرة للفنانين العرب- أن يتباروا مع أقرانهم في العالم في القيمة والألق. كيف لا، وقد صاحبَ تقدمُه في هذا الفضاء فتحَ علاقات واسعة مع أهل الذوق ومحبي الفن وكبار المقتنين، بين عرب وأجانب.

الذي لم تفارقه كاميرته، أينما كان، نجحَ صالح بركات، في صالة عرضه، قبل سنوات قليلة، في إعادته إلى بيروت، وفي الكشف عن مخزونه الصوري الهائل، في معرض بعنوان: «بيروت مدينة من نسيج رغبات العالم: يوميات وضاح فارس».

ذلك أنه كان مبادراً، ومغامراً في آن. كريماً ومبذراً في آن. كأنه صنيع نفسه، فلم يرَ إلى الخلف في الغالب.

مضى في حياته، مختاراً لها، من دون إكراه، من دون حنين، من دون حزن: نحن من نفتقده، إذ نفتقد بيروت المشعة التي كان أحد «نجومها» اللامعة.

ذلك أنه خرجَ، ولم يَعُد.

MISS 3