جيمي الزاخم

حكايةُ غزّة من الكنعانيّة إلى الصّهيونيّة

23 كانون الثاني 2024

02 : 01

الكثافةُ السكّانية في القطاع من الأعلى عالميّاً
بين رعدٍ وقصف، بين أمطار ناعمة وسيول جارفة، بين كانونَيْن توأَمَيْن مُتشابهَين بالمنخفضات الجويّة والمرتفعات الدّموية، يسترسلُ طقسُ غزة بالتفوّق على الأرصاد الطبيعيّة. ويتصدّر الأحوالَ الإنسانية. هي تُواجه الرياحَ بإعصار، والنارَ بطوفان. تؤلّف فصلاً خامساً مستمرّاً. تعيش يوميّاتِها مع روزنامةٍ بتقويم متفرّد يجمع الأبراجَ النارية، والمائية، والترابية والهوائية في بقعة واحدة. بقعةٌ لا تتخّطى مساحتُها 2% من مجمل مساحة فلسطين، لكنّها تحملُ في حنجرتها صوتَ مئات القرون بكلّ حكاياتها. في هذا المقال، نجفّفُ خطوطاً عريضة من حكايات أمسها القريب والبعيد الذي حنّطتْه عشراتُ الكتب.

نبدأ بكتاب «تاريخ غزة» للمؤرّخ الفلسطيني عارف العارف الصادر عام 1943. هو رحلةٌ موسوعيّة عن تاريخ غزّةَ التي يصفُها أنّها «ليست بنت قرن من القرون أو وليدةَ عصر من العصور... هي من أقدم مدن التاريخ». يُرشدنا الكاتب إلى أصل تسمياتِها ومعانيها. يُرجّح أن «اسمها مشتقٌّ من العزّة والقوّة». يربط آخرون اسمها بأصل فارسيّ ويونانيّ. وفي اللغتين، هي تعني «الكنز الملكيّ». في تاريخها القديم، هي كنزٌ تجاريّ وحربيّ بسبب موقعها بين جزيرة العرب وأفريقيا، وعلى الطريق الصحراويّة بين مصر والهند. كانت من ضمن أرض الكنعانيّين البارعين في البناء، الزراعة والحروب. ثمّ وصلَها الفراعنة وملوكُهم منذ عام 3235 قبل الميلاد. بعدها، حكمها بنو إسرائيل. «اعتبروها شوكةً في جسم مملكتهم». يُكمل العارف السّرد مع الآشوريّين، البابلييّن والفارسيّين. دخلها الإسكندر المقدونيّ مع جيشه عام 332 ق.م. تحوّلت إلى مقاطعة رومانية سنة 95 ق.م. ومع بدء انتشار المسيحية، شهدت غزّة صراعات الوثنيين والمسيحيّين. استراحت في فيء شجراتها مريم العذراء ويوسف والطفل يسوع في طريق عودتهم من مصر، إبّان موت هيرودوس. هذه عناوين سريعة تختصر تفاصيل التفاصيل التي رواها العارف وصولاً إلى الفتوحات الإسلامية التي وطأت غزّةَ هاشم. هكذا لُقِّبَت لأنّ الجدّ الأكبر للنبيّ محمد تُوفّي فيها أثناء إحدى رحلاته. عاش فيها عمر بن الخطّاب ردحاً من الزمن. وشهدت ولادةَ الإمام الشافعيّ. وزارها النبيّ محمد قبل إنزال الوحي عليه. الكتاب رحلة مع غزّةَ ومعالمها وتراثها وحروبها التي لا تنتهي بين مماليك وفاطميين وأنباط... يسرد حكاياتها مع الحروب الصليبية والسلطنة العثمانية وباشواتها ومعارضيهم. ندخلها مع نابوليون بونابرت الذي وصفها بـِ»المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا». ينتهي الكتاب مع دخول الاحتلال البريطاني بناءً على قرار أصدرتْه وزارةُ الحرب البريطانية عام 1917. نصولُ ونجولُ مع مئات القرون بالاستناد إلى مئات المعلومات الواردة في مخطوطات، معاجم ومراجع عربية، إنكليزية، فرنسية وتركية. فأحاطت بتاريخ غزة حتى أوائل الأربعينات من النواحي الاقتصادية، التراثية، الزراعية والحربيّة.



غزّة عام 1920



هذه التفاصيل يرد قسمٌ منها في كتاب «قصة مدينة غزة» لمؤلِّفه هارون رشيد. يتفاوت الغوص فيها بين الكتابين عمقاً وكمّاً. الأول يُسهب أكثر بكثير في تأريخ كلّ الحضارات التي مرّت على غزة. أمّا الثّاني فيفتح معظم جداوله ومعلوماتِه عن واقعها الزراعيّ الجغرافيّ: عن حمضيّاتها، زيتونها، فخارها، نسيجها، كبريتها ومدارسها. يُحصي أعداد السكان المتغيِّرة تبعاً للتبدّلات السياسية، العسكرية والاقتصادية. نعود إلى أيام غزة تحت حكم المصريين منذ منتصف ليل نكبة 48. ونصل إلى عدوان 1956 على الأراضي المصرية ثمّ على القطاع الذي كان يُسمّى قبل 1948 بـِ»لواء غزة». كوّنتْه 3 مدن و54 قرية. دمّر الاحتلال 45 منها تدميراً كاملاً. وفي خريطة التواريخ الباصمة، يحضر عام 1967 وحزيرانُه: نجح الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على القطاع بعد محاولات اقتحام كانت باءت بالفشل.

ولعلّ أشهر الأكاديميّين والكتّاب الغربيّين الذين كحّلوا- بقلم التوثيق والتحقيق- عينَ الواقع الفلسطينيّ الغزّاويّ، اثنان هما نعوم تشومسكي وإيلان بابيه. يؤكّدان أنّ كتابَهما «غزة في أزمة» هو»ليس كتاباً عنها، بل حول ما ارتُكِب بحقّها». القصة أو بالأحرى الحقيقة تبدأ قبل عام 1948 الذي شهد نزوح «نحو 250 ألف فلسطيني إلى قطاع غزة بعد طردِهم من منازلهم». هؤلاء وذريّتُهم «يتجاوزون حالياً 70% من عدد السكان. أكثر من نصفهم هم فوق 18 سنة»، في منطقة تُعَدّ من الأعلى كثافةً في العالم. يُورد المؤلّفان سنوات ومفاصلَ أساسية. على سبيل الذكر لا الحصر: انتفاضة 1987 التي اشتعلت من مخيم جباليا في غزة، فوز حركة حماس في انتخابات 2006، ثمّ إحباطها محاولةً انقلابية في القطاع عام 2007. تُكتّفُ السنوات مع الأسباب وصولاً إلى عدوان «الرصاص المصبوب» على غزة في كانون الأول 2008. هدفَ إلى إعادة تأسيس قوة الردع الإسرائيلية، مع سعي دائم بتحويل المدينة إلى بؤرة غير قابلة للعيش. أثبتت واعترفت بعَثةُ تقصّي الحقائق، برئاسة غولدستون، بانتهاكات القوانين الدولية وجرائم الحرب. وبعد الضغوطات والحملات، نشر رئيسُها مقالاً في «واشنطن بوست» يتراجع فيه عن تقريره. وبين هذه السنوات وقبلها وبعدها، يجرح الكتابُ صفحاتِه بأشواك الظلم الإسرائيلي وحصاره القطاع وحرمانه من أبسط حقوقه.



الجيش البريطانيّ داخل أسوارها



تتكرّر وتتبلور هذه المعطيات في كتاب «غزة: بحث في استشهادها»: وهو إجابات تشومسكي وبابيه عن أسئلة أستاذ العلوم السياسية نورمان فنكلستاين عن تفاصيل فلسطينية وغزّاوية. يسهب بالشرح عن أحوال القطاع والحصار، عن الدّمار البشريّ والعمراني، عن الإبادات الإنسانية والغذائية مع قصف منشآت مخازن الأغذية والأدوية التابعة للأونروا والهلال الفلسطينيّ. تَجمع الإجابات جزئياتِ الاستراتيجيات الإسرائيلية العسكرية والسياسية وانتهاكاتها.

هذه الانتهاكات والجرائم الهائلة تجتمع شظاياها في ساحة كتاب «جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة». يدمج بدر عقيلي اعترافات جنود شاركوا في عمليات الرصاص المصبوب. جزئيّاً، يكشفون آليات التعبئة النفسية العسكرية، السياسية والدينية مع حاخامات يرفعون معنوياتهم. إنّها عناقيدُ حبر تتفجّر بالصوت والصورة، بالفوسفور والقنابل والجثث. تُطلُّ برأسها من بئر الظلم والاحتلال لكنّها لا تسحبُك إلى قعرِه، فلا يلتهمك حوتُ الخوف. لكنّ التعويلَ يبقى على حوت الوعي لئلّا تُنهش الحقيقةُ الغارقة في آبار وحارات غزة التي يتدفّق التاريخ من أسوارها وأبوابها المصنوعة من خشب الصّبر. هذا المقال هو مفتاح هذه الأبواب. لا يفتحُها ولا يتخطّى عتبتَها التي وطأها المؤرّخون، ودخلوا إلى عمق التاريخ وعاينوا خاصرتَها المطعونة النازفة وجراحَها. جراح اتّسعت بعد تشرين الأول 2023، وخرج من جوفها ذئبٌ من صوتٍ وصدى.



MISS 3