روبرت زاريتسكي

مونتين هرب من الطاعون ووجد نفسه!

3 تموز 2020

المصدر: The New York Times

02 : 00

في صيف العام 1585، سمع عمدة مدينة "بوردو"، حين كان في قصره المريح، أن الطاعون الدبلي تفشى في مدينته. قيل له إن البعض هرب حين سنحت له الفرصة، فيما راح الآخرون "يموتون كالحشرات". ما كان أفضل حل حينها؟ من جهة، كادت ولايته تنتهي وكانت آخر مهمة رسمية له تقضي بحضور حفل لتسليم منصبه إلى خلفه. ومن جهة أخرى، كان واجبه يفرض عليه على الأرجح أن يساعد من بقوا داخل أسوار المدينة.

وضع العمدة يديه الاثنتين على لجام حصانه وتوجه نحو طرف المدينة وكتب رسالة إلى مجلس البلدية كي يسأله إذا كانت حياته تجعله يستحق احتفالاً لتسليم منصبه. لكنه لم يتلقَ أي جواب فعاد إلى منزله. قبل تلاشي الطاعون، توفي أكثر من 14 ألف شخص، أي ثلث سكان المدينة، بطرقٍ مريعة. أما العمدة السابق، فعاد وانشغل بمهمة أكثر إلحاحاً: كتابة المقالات. ذلك العمدة كان ميشيل دي مونتين المعروف اليوم بـ"كاتب المقالات". كتابه Essays (المقالات) هو عمل كلاسيكي يعرض فيه الكاتب أفكاره ومعارفه الخاصة. كان مونتين معروفاً خلال حياته بعمله السياسي. لكن بدت جهوده في معترك السياسة ومقالاته التي يصف فيها نفسه مترابطة. في الحالتَين، استكشف الكاتب حدود ما يستطيع فعله في العالم وما يستطيع معرفته عن ذاته.

كانت "بوردو" معقلاً للطاعون الجرثومي واللاهوتي في أواخر العقد الخامس من الألفية الماضية. اجتاحت الحروب الدينية فرنسا بين العامين 1562 و1598، وقد شملت سلسلة من ثمانية صراعات مختلفة بين الكاثوليك والبروتستانت وارتُكِبت خلالها مذابح من الجهتَين. حاول مونتين، بصفته عمدة ودبلوماسياً، أن يؤدي دور الوساطة لعقد اتفاقيات بين الطرفين في مناسبات متكررة. كان معروفاً (ومكروهاً) من الطرفَين نظراً إلى دهائه السياسي، ما يعني أنه يحاول إيجاد قواسم مشتركة بين جميع الأفرقاء في أي منطقة تجتاحها مظاهر التعصب.





لم ينجح مونتين يوماً في هذه المساعي لكنه ما كان ليفوّت زمن الطاعون. في مقالته On Physiognomy (حول علم الفراسة) في العام 1585، وصف الحروب بعبارة "الكوارث المربحة". لقد حضّرته المذابح المتبادلة لمواجهة الطاعون اللاحق، وعلّمته مظاهر الوحشية والسخط والطموح والجشع التي شاهدها لدى الطرفَين أن يتكل على نفسه في الأوقات الصعبة.

لكن كانت الحيلة الأساسية تقضي بإيجاد الذات في المقام الأول. حين كان مونتين يكتب مقالاته ويعيد صياغتها حتى وفاته في العام 1592، كان يكتب فعلياً عن ذاته ويعيد صياغتها. في مقالة On Giving the Lie (حول قول الأكاذيب)، لاحظ الكيمياء الغريبة بين الورق والناس، وبين كتابة قصة الحياة الشخصية وتقمّص تلك الحياة بحد ذاتها: "أنا لم أصنع كتابي إلا بقدر ما صنعني كتابي... ما يعني أن الكتاب يتماهى في جوهره مع كاتبه".

قبل أكثر من ألف سنة، كان مفكرون من أمثال إبيقور وسينيكا قد رسموا هذا المسار. نَقَش مونتين كلماتهم على صفحات مقالاته، وفي أعلى رفوف مكتبته أيضاً، فأدرك أن هؤلاء المعلّمين، على عكس الفلاسفة في عصره (أو عصرنا)، ما كانوا يريدون نقل المعلومات إلى طلابهم، بل أرادوا تدريبهم. في هذا السياق، اعتبر العالِم الكلاسيكي بيار هادو أن مفاهيم الرواقية والإبيقورية لم تطرح أفكاراً مجرّدة جديدة بل "تمارين روحية" واقعية. كانت مناهج تلك المدارس مختلفة، لكنها حملت الغاية نفسها: تعليم الطلاب كيفية التعامل مع الفيزياء والأخلاقيات، لا كغاية بحد ذاتها، بل كوسيلة للسيطرة على الذات وتحسين التعاطي مع تحديات الحياة اليومية، بما يشبه مواجهة الكوارث المفاجئة.

لكن كانت القدرة على التحكم بالذات وسيلة لتحقيق غاية أسمى: تكييف الذات مع العالم. من خلال الاعتراف بالواقع وتحديد ما يمكن تغييره وما يستحيل تغييره، يمكننا أن نتعلم الحاجة إلى التحكم بالذات. كان ذلك "الطاعون الأكثر خطورة" في العام 1585 يتحدى مبادئ التحكم بالذات التي وضعها مونتين أكثر مما فعلت الحروب. حين وصل الوباء إلى عقاره، هرب مع عائلته لحمايتهم. هو يتذكر أنه شاهد فلاحين وهم يحفرون قبورهم حين كان في طريق الهروب.

لن نعرف مطلقاً ما فكّر به هؤلاء الرجال والنساء حين شاهدوا مونتين وأفراد عائلته وهم يمرّون بالقرب منهم على أحصنتهم وفي عرباتهم. لكن ما رأينا نحن بما حصل؟ برأي عدد كبير من النقاد، قد لا يكون مونتين جباناً بالمعنى الصريح للكلمة لكنه أقل من بطل: لنتخيل أن يعرف عمدة نيويورك بيل دي بلاسيو أن فيروس كورونا اجتاح مدينته حين كان يمضي عطلته في "باركشير"، فيكتب رسالة إلكترونية إلى مجلس البلدية كي يتمنى لهم حظاً سعيداً. لكن يجب أن نتذكر أن مونتين لم يزعم يوماً أنه بطل ولم يحاول أن يكون كذلك. بل إنه أراد القيام بكل ما بوسعه (في هذه الحالة إنقاذ عائلته) وسعى إلى اكتشاف ما يستطيع اكتشافه من هذه التجربة.

في النهاية، اكتشف هذا الكاتب أهم "مقالة" على الإطلاق! لكننا لا نعني بها التحفة الفنية التي كتبها بقدر ما نتكلم عن الحياة التي عاشها. في عدد كبير من المقالات التي كتبها عن حياته، اكتشف أهمية الحياة المعتدلة. يذكر مونتين في مقالته الأخيرة On Experience (حول الخبرة) أن "عظمة الروح لا تعني الضغط نحو الأعلى والأمام بقدر ما تعني تعلّم كبح الذات وتنظيمها". لقد أدرك بكل بساطة أهمية الحياة المعتدلة. هو يكتب عن ضرورة أن "نؤلف شخصيتنا بدل تأليف الكتب". لا تحمل هذه الفكرة أي جوانب متناقضة لأن مقالاته الأدبية ساعدته على صياغة حياته. قد يكون الدرس الذي استخلصه من تلك التجربة الصعبة مهماً في تجربتنا الراهنة: "أعظم عمل على الإطلاق هو عيش الحياة بالشكل المناسب"!


MISS 3