مريم سيف الدين

"يا للعار يا للعار ودّونا عالإنتحار"... جثّة وغضب في بيروت

4 تموز 2020

02 : 00

محتجون يحمّلون السلطة مسؤولية انتحار مواطنين (رمزي الحاج)

وإن لم يفاجأ اللبنانيون صباح أمس لسماعهم خبر انتحار مواطنين، غير أن الخبر أثار حالة من الغضب والاستنكار. إذ يتوقع اللبنانيون الذين يعيشون ضغوطات معيشية ونفسية كبيرة أن ترتفع نسبة الإنتحار في عهد الإنهيار. وتلقف المواطنون بغضب وحزن شديدين خبر شنق مواطن في صيدا نفسه، وإطلاق آخر النار على نفسه في بيروت. وتعامل مواطنون مع الأمر كمن يرى نبوءته تتحقق، وحاول بعضهم الإستفادة من الحادثين المأسويين لإيقاظ ضمائر المسؤولين وحثّهم على البحث الجدي عن حلول للأزمات، والتخلي عن مصالحهم الضيقة لإنقاذ المواطنين من الأزمة القاسية التي يعيشونها، ومن احتمال الانتحار. إذ باتت الأزمة تدفع بالبعض في اتجاه الموت هرباً من القهر والإذلال، ولتسجيل اعتراضهم على الأوضاع. وفور شيوع الخبرين سارع مواطنون إلى اتهام السلطة بقتل الضحيّتين قائلين إنهما "قتلا ولم ينتحرا".

ولم يختر المواطن علي الهق صدفة مكان وضع حدّ لحياته قرابة العاشرة والنصف من صباح أمس. وقرب مقهى "الدانكن دونتس" في شارع الحمرا الرئيسي أطلق الرّجل الستّيني النار على نفسه وفارق الحياة. تعمّد الهق اختيار الشارع الذي عادة ما يشهد تحركات احتجاجية، ودوماً ما يمتلئ بالناس وبمراسلي وسائل الإعلام. وتشير اللافتة التي وضعها الهق بقربه بأنه تحضّر لخطوته قبل الإقدام عليها، فأتت نتيجة خيار اتخذه وأصرّ عليه بعد طول معاناة ولم تكن نتيجة انفعال لحظوي. وعلى اللافتة وضع الراحل نسخة من سجلّه العدلي الذي يحمل عبارة "لا حكم عليه" وتحت السجل كتب الهق آخر ما أراد قوله "أنا مش كافر". وكأنه يقدّم عبر اللافتة مرافعته الأخيرة أمام الذين يدرك أنهم قد يجلدونه بأحكامهم بعد وفاته بدل أن يحاكموا السلطة ويحملوها مسؤولية موته، لعلهم بذلك يدينون من دفع به لقتل نفسه. وحتى لا تضيع بوصلة الاتهام، ولأن الإنتحار فعل اعتراض يُدفع إليه الفرد، نزل مواطنون إلى مكان الحادثة ليؤكدوا أنّ علي "لم ينتحر وإنما قتل بدماء باردة على يد السلطة" هاتفين "يا للعار يا للعار ودّونا عالإنتحار".



دماء الهق أثارت غضب المواطنين



لساعات بقيت الجثة ملقاة على الأرض بانتظار نقلها إلى المستشفى، وصل الطبيب الشرعي كشف عليها وأنهى كشفه، ووصل شقيق الهق وأقرباؤه وانتظروا وصول سيارة الإسعاف التي تأخّر وصولها حتى الساعة الثانية إلاّ ثلثاً. رفعت الجثة عن الأرض، حملها أقرباؤه بنعش أبيض إلى داخل سيارة الإسعاف ومضوا إلى المستشفى، بعد ان رفضوا التصريح أمام وسائل الإعلام. وبذلك امّحت الآثار المادية للحادثة فيما بقي وقع الصدمة كبيراً في المنطقة التي اختارها الهق مكاناً لإيصال صرخته الأخيرة. وقبل وصول الإسعاف، لم يترك المحتجّون الهقّ وحيداً، فأقفلوا الطّريق وهتفوا بكلّ ما ظنوا أن الراحل أراد قوله عبر انتحاره. فحمّلوا السلطة مسؤولية مقتله، واتهموها بدفع المزيد من المواطنين إلى الإنتحار عبر الاستمرار بسياسات تحرمهم أبسط حقوقهم. وعبّر المحتجّون عن كمٍّ كبير من الغضب والقهر، وعن تخوّف جدّي من تكرار حوادث الانتحار نتيجة لما أوصلتهم إليه السلطة من قهر. فيما انفجر ابن عم الضحية غضباً وراح يصرخ شاتماً السياسيين والحكومة، "كلن حرامية شحّدوا العالم، إبن عمي قتل حالو من الجوع".

وأقفل المحتجون شارع الحمرا لساعات وبشكل متقطّع، ودعوا المارة للتضامن والاحتجاج معهم. وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، نعى مواطنون الهق معتبرين بأنه "قتل ولم ينتحر". وتحدّث هؤلاء عن الحالة النفسية الصعبة التي وصل إليها اللبناني نتيجة للأعباء الإقتصادية. وعن معاناتهم هم أيضاً من الضغوط النفسية ومكافحتهم للاستمرار في ظلّها.

وتشهد الحالة النفسية للمواطنين تدهوراً بات واضحاً نتيجة للإنهيار الإقتصادي، وتتالي الصدمات وكثرة الأخبار السّلبية. في وقت تغيب فيه وزارة الصحة عن أداء مهامها لناحية الحرص على تأمين خدمات تواكب الصحة النفسية للمواطنين، ولا يلحظ على الأرض أي حضور فعلي لبرنامج الصحة النفسية الذي أطلقته الوزارة منذ سنوات. فيما يعجز المواطنون عن تأمين كلفة أي علاج نفسي قد يحتاجون إليه.