في ظلّ تصاعد الاستياء العالمي من الحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، ركّزت الصين على الاستفادة من الانقسامات المتزايدة بين مواقف واشنطن ودول الجنوب العالمي في شأن تلك الحرب خدمةً لطموحاتها السياسية الخارجية.
على مرّ الحرب المستمرّة بين إسرائيل وحركة «حماس»، حرصت الصين على البقاء على هامش الأحداث خوفاً من التورّط في صراع متفاقم أو تهديد علاقاتها الإقليمية. لكن فيما تواجه واشنطن ردود أفعال قوية بسبب دعمها إسرائيل، استغلّت بكين الفرصة أيضاً للاصطفاف مع الجنوب العالمي (عشرات البلدان التي تشمل البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، وباكستان). أدان هذا المعسكر تحرّكات إسرائيل وأطلق مواقف مختلفة بالكامل عن الموقف الأميركي.
منذ البداية، طغى الحذر على مواقف الصين في شأن حرب إسرائيل و»حماس». انتظر الرئيس الصيني شي جينبينغ حوالى أسبوعَين مثلاً قبل أن يُعبّر عن موقفه من هجوم «حماس» ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023. في غضون ذلك، امتنعت البيانات الحكومية الأولية عن تسمية «حماس»، ما أثار استياء المسؤولين الإسرائيليين. خلال الأشهر اللاحقة، طرحت الصين نفسها كصانعة سلام، فدعت إلى وقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية من دون أن تورّط نفسها في الصراع مباشرةً.
تتّضح رغبة الصين في حماية علاقاتها في منطقة البحر الأحمر، حيث اضطربت عمليات التجارة العالمية بسبب اعتداءات الحوثيين المتواصلة طوال أشهر ضد سفن الشحن التجارية تضامناً مع الفلسطينيين، بحسب قولهم. وفيما يرسل عدد متزايد من البلدان السفن لحماية ذلك الممر، امتنعت الصين عن التدخّل بقواتها البحرية الخاصة. أقصى ما فعلته بكين هو الضغط ضمناً على إيران التي تدعم الحوثيين لدفعها إلى التدخّل، كما ذكرت وكالة «رويترز»، مع أن المسؤولين الإيرانيين ينفون هذه الأخبار.
تتعارض مقاربة بكين بكل وضوح مع استراتيجية واشنطن التي تُعتبر من أقدم وأقوى داعمي إسرائيل منذ تأسيسها ولطالما منحت البلد مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات، حتى أنها طرحت نفسها كأول مدافعة عن إسرائيل على الساحة الدولية منذ بدء الحرب، فاستعملت الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن لمنع تمرير قرارات تدعمها عشرات الدول لوقف إطلاق النار، بما في ذلك عدد كبير من دول الجنوب العالمي والصين. كذلك، تحرّكت إدارة جو بايدن في البحر الأحمر، فأطلقت ضربات ضد الحوثيين في اليمن وأرسلت فرقة عمل دولية لضمان حرية الملاحة في ذلك الممرّ.
لكن في ظل زيادة حصيلة الخسائر البشرية على نحو مريع في غزة بسبب الحملة العسكرية الإسرائيلية، زاد استياء معظم دول العالم من دعم واشنطن الثابت لإسرائيل وخاب أملها بالموقف الأميركي. في الوقت الراهن، يواجه أكثر من نصف مليون شخص في غزة «مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي»، وفق تحذير «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» في شهر كانون الأول.
تحاول بكين من جهتها الاستفادة من هذه الانقسامات. تعليقاً على الموضوع، يقول إيريك أولاندر، أحد مؤسسي «مشروع الصين للجنوب العالمي»: «يشعر الصينيون بأن هذا الوضع سيُمعِن في إضعاف الولايات المتحدة بنظر بقية دول العالم، وفي مناطق تهمّهم على نحو خاص. تصبّ هذه الظروف في مصلحة الاستراتيجية الصينية، ما يسمح للصينيين بإثبات مدى عزلة الأميركيين ونفاقهم وعدم تناغمهم مع بقية دول العالم. أظنّ أن الصينيين يستغلون هذا الوضع ببراعة فائقة لتنفيذ سياستهم الخارجية ونشر جزء من الأفكار التي يحاولون ترويجها في شأن عيوب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة».
كجزءٍ من هذه الاستراتيجية، طرحت الصين نفسها علناً كصانعة سلام، فاقترحت خطة مؤلفة من خمس نقاط ودعت إلى تنظيم مؤتمر سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في تشرين الأول، أرسلت بكين مبعوثاً إقليمياً إلى قطر ومصر لدعم قرار وقف إطلاق النار، ثم تعهّدت لاحقاً بتقديم مساعدات إنسانية بقيمة 4 ملايين دولار إلى غزة، واستضافت وفداً من الوزراء العرب والمسلمين، وشاركت في قمة افتراضية بقيادة مجموعة «بريكس» (كانت تشمل حينها البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) لمناقشة الصراع المستمرّ.
في هذا السياق، قال السفير الصيني لدى الأمم المتحدة تشانغ جون، في مجلس الأمن خلال أول شهر من الحرب: «تسعى الصين بكل قواها إلى دعم وقف الأعمال العدائية وإعادة إرساء السلام. ستتابع الصين دعم مبدأ الإنصاف والعدالة الدولية وستقف دوماً إلى جانب القانون الدولي والطموحات المشروعة للعالم العربي والإسلامي».
كذلك، بدأ وزير الخارجية الصيني وانغ يي، جولة أفريقية واسعة في شهر كانون الثاني، واستفاد من رحلته إلى مصر (هي واحدة من الوسطاء في حرب إسرائيل و»حماس») لتكرار الدعوة إلى وقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية.
لكن يظنّ الخبراء أن تحركات بكين تبقى استعراضية في معظمها، ما يعني أنها لا تُحقق أي نتائج ملموسة. برأي مارك ليونارد من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فشلت قمة مجموعة «بريكس» في تشرين الثاني في إصدار بيان مشترك أو طرح خارطة طريق عملية للتعامل مع تطوّرات المرحلة المقبلة. وبحسب تقديرات «معهد بروكينغز»، حمّلت خطة السلام الصينية المقترحة مجلس الأمن، لا بكين، مسؤولية حل الصراع.
في شهر كانون الأول، كتب أحمد عبوده، مسؤول غير مقيم في المجلس الأطلسي، أن «جدّية الصين في لعب دور الوساطة في حرب إسرائيل و»حماس» هي مجرّد سراب»، ثم تطرّق إلى «غموض المصطلحات الديبلوماسية الصينية والمبالغ المالية غير المؤثرة التي يقدّمها ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى غزة».
بدل أن تُورّط بكين نفسها في الصراع، يبدو أنها فضّلت التركيز على انتقاد واشنطن وإثبات التناقض بين مواقف البلدَين، في محاولة منها للتشكيك بصدقية إدارة بايدن أمام العالم. اتّضحت هذه الجهود بالكامل في مجلس الأمن، حيث استعملت الصين حق النقض للاعتراض على مشروع قرار أميركي في تشرين الأول، فانتقدته لأنه لا يدعو إلى وقف إطلاق النار. عارضت روسيا أيضاً ذلك القرار.
قال تشانغ حينها: «الولايات المتحدة طرحت مشروع قرار جديد يتجاهل إجماع الأعضاء». ثم أضاف بعد اقتراح بعض التعديلات من أعضاء آخرين، بما في ذلك بكين: «واشنطن تجاهلت مخاوفها الأساسية وطرحت مشروع قرار يخلط بين الصواب والخطأ».
في وقتٍ لاحق من كانون الأول، بعدما عارضت واشنطن في مجلس الأمن مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار فوراً لأسباب إنسانية، استفادت بكين من الوضع مجدداً للاصطفاف مع الجنوب العالمي وتسليط الضوء على الموقف الأميركي المغاير. قال تشانغ إن بكين، بصفتها واحدة من مئة داعم للقرار، «تشعر بخيبة أمل كبيرة وتأسف لأن الولايات المتحدة استعملت حق النقض لمنع تمرير مشروع القرار. هذا الموقف يثبت مجدّداً معنى المعايير المزدوجة».
عبّرت وسائل الإعلام الحكومية عن توجّهات مماثلة، فزادت تركيزها على اختلاف المواقف بين الولايات المتحدة والصين. تعليقاً على الفيتو الأميركي، ذكرت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية أن «تقبّل استمرار الصراع تزامناً مع التظاهر بالاهتمام بسلامة سكان غزة وحاجاتهم الإنسانية يعكس أعلى درجات التناقض. كل من يدعو إلى منع تمدّد الصراع ويوافق على استمراره يخدع نفسه». وفي الفترة الأخيرة، اصطفّت بكين أيضاً مع دول الجنوب العالمي في واحدة من أوضح الحالات التي تثبت استياء الكثيرين من أفعال الإسرائيليين، فقد رفعت جنوب أفريقيا قضية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية. لا تستطيع هذه المحكمة أن تنفّذ أحكامها بأي طريقة، لكن تعكس القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا زيادة الضغوط الدولية على إسرائيل التي اعتبرت تلك التُهَم «خاطئة» و»مشينة».
لم تُصدِر محكمة العدل الدولية حُكمها النهائي بعد بشأن ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، ولن تفعل ذلك على الأرجح قبل مرور سنوات، لكنها ردّت أخيراً على جنوب أفريقيا التي طالبتها بإصدار أمرٍ يقضي بتعليق الحملة العسكرية الإسرائيلية بشكلٍ عاجل. أمرت المحكمة إسرائيل في ذلك القرار بـ»اتخاذ كلّ التدابير اللازمة» لتقليص الأضرار المترتبة على المدنيين في غزة.
بعد إعلان ذلك القرار، عبّرت وسائل الإعلام الصينية الحكومية عن أملها في أن تتشجّع «بعض الدول الكبرى على وقف تجاهلها» التحركات الإسرائيلية في غزة. في المقابل، كرّرت إدارة بايدن موقفها القائل إن مزاعم الإبادة الجماعية التي تطلقها جنوب أفريقيا «لا أساس لها من الصحة»، مع أن بعض المصادر ذكرت أن قرار محكمة العدل الدولية كان يتماشى مع مطالبتها إسرائيل بضمان سلامة المدنيين في القطاع.
لطالما أعطت الصين الأولوية لتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية مع بلدان من كلّ أنحاء الجنوب العالمي، حتى أن وزير الخارجية وانغ قام حديثاً بأول رحلة خارجية له في العام 2024، فزار مصر، وتونس، وتوغو، وساحل العاج. تتكرر هذه الرحلة للسنة الرابعة والثلاثين توالياً، إذ يختار وزير الخارجية الصيني في السنوات الأخيرة أفريقيا كوجهة له في أول رحلة دولية من كل سنة. سافر وانغ إلى البرازيل وجامايكا لاحقاً.
في النهاية، يقول أحمد عبوده من المجلس الأطلسي: «قررت الصين أن تعامل إسرائيل وكأنها ضرر جانبي، مقارنةً بأكثر من 50 بلداً في الجنوب العالمي. تريد الصين إذاً أن تدعم تلك البلدان الرؤية التي تطرحها في مجال الحُكم العالمي وأولوياتها الاستراتيجية».