أحداث السودان وتشعّباتها الإقليمية!

13 : 41

انتهت حقبة كاملة في القرن الأفريقي! بعد ثلاثة عقود في السلطة، سقط الزعيم السوداني عمر البشير في شهر نيسان الماضي. اندلعت احتجاجات حاشدة ضد الحكومة ثم لحقها انقلاب عسكري بعد فترة قصيرة. اليوم، تبدو بقايا الدولة الأمنية التي خلّفها البشير عالقة في مواجهة مطوّلة مع حركة مثابِرة تنادي بالديموقراطية للسيطرة على البلاد. قرر "المجلس العسكري الانتقالي" الحاكم فرض النظام بطريقة عنيفة، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة محتجّ خلال حملة قمعية بدأت في 3 حزيران. لكنه تعهد أيضاً بتسهيل المرحلة الانتقالية التي تُمهّد لنشوء حكم مدني كجزءٍ من اتفاق تجريبي على تقاسم السلطة مع منظمة "قوى الحرية والتغيير" التي تمثّل المتظاهرين.

تتزامن الاضطرابات في السودان مع إقدام رئيس الوزراء الإصلاحي آبي أحمد في إثيوبيا على توسيع المساحة السياسية في بلده بطريقة جذرية، كما يحارب نزعة متزايدة إلى ارتكاب العنف على أساس عرقي. إلى جانب الاضطرابات الأقل وطأة في إريتريا ومناطق أخرى، يمكن أن تُغيّر التحولات التاريخية في السودان وإثيوبيا مسار زاوية متقلبة من أفريقيا خلال العقود المقبلة. لذا يتساءل الجميع في المنطقة راهناً عن شكل الحقبة المرتقبة: هل ستطلق نظاماً جديداً يتوسع فيه هامش الديموقراطية بناءً على الأساس المشترك للسيادة الوطنية والأمن الجماعي؟ أم أنها ستنشئ نظاماً استبدادياً معزولاً يدين بوجوده للقوى الخارجية؟ يشكّل السودان على وجه التحديد عيّنة مصغّرة عن هذا الصراع الواسع الذي يهدف إلى إعادة رسم النظام الإقليمي، كما أنه سينذر على الأرجح بنتيجة ذلك الصراع. من جهة، نجد تحالف الدول الأفريقية التي يجمعها "الاتحاد الأفريقي" وكتلة إقليمية مهمة من شرق أفريقيا. ومن جهة أخرى، تبرز الأنظمة الملكية الغنية بالنفط في الخليج العربي.

وجهات نظر متعارضة

انتقلت معظم مناطق أفريقيا إلى أنظمة سياسية تنافسية خلال التسعينات، لكن لم يطاول ذلك التغيير القرن الأفريقي. بل عمد جيل جديد من الحكام الاستبداديين هناك إلى ترسيخ سلطته. وفي العام 1989، قاد البشير الحركة الإسلامية العسكرية التي أطاحت الحكومة السودانية المُنتَخبة. بعد وقت قصير، سيطر قادة حرب العصابات على إثيوبيا وأريتريا المجاورتين. وفي نهاية التسعينات، نظّم حزب "الحشد الشعبي من أجل التقدم" الحاكم في جيبوتي مرحلة انتقالية من زعيم نافذ إلى آخر.

في البداية، لم تبذل الولايات المتحدة جهوداً بارزة لكبح هذا الجيل الجديد من الحكام الاستبداديين. لكن بعد اعتداءات 11 أيلول، بدأت تساعدهم وتشجّعهم في خضم مساعيها لمكافحة الإرهاب. نجحت الدول الأمنية القومية المتغطرسة في السيطرة على المنطقة وراحت تُرَوّج لإيديولوجيا الاستقرار الاستبدادي، لكنها اكتفت عملياً بترسيخ النزعة الاستبدادية. كانت تلك الدول ميليشياوية وغير آمنة في جوهرها، فلم تتوقف عن خوض الصراعات والانتقال من أزمة إقليمية إلى أخرى عن طريق القمع.

في آخر ثلاث سنوات، بدأ هيكل ذلك النظام القديم يتصدّع. ركب رئيس الوزراء المتحمّس للإصلاحات موجة الاحتجاجات الشعبية للوصول إلى السلطة في إثيوبيا، حيث أطلق آلاف المعتقلين السياسيين، وحسّن الحريات الإعلامية، وأنهى نزاعاً قائماً منذ عشرين سنة مع أريتريا المجاورة. أدت اضطرابات مماثلة في السودان إلى إسقاط الديكتاتور الذي بقي في منصبه لأطول فترة في المنطقة، مع أن نوع النظام الذي سيخلفه لم يتّضح بعد. من المتوقع أن تترافق التحولات السياسية في البلدَين (وهما أكبر وأقوى وأبرز طرفَين اقتصاديَين في المنطقة) مع تداعيات بارزة في إريتريا وجيبوتي وجنوب السودان، حيث تتعرض الأنظمة الاستبدادية لضغوط شديدة بسبب أزمات الخلافة المرتقبة واضطرابات أخرى.

في ظل توسّع النفوذ الإيراني، وظاهرة "الربيع العربي" التي زعزعت استقرار المنطقة، وتقليص المظلة الأمنية الأميركية، سعت الرياض وابو ظبي إلى إحداث تغيير جذري في علاقات بلدَيهما مع الدول المجاورة على طول البحر الأحمر. في العام 2015، أقامت الإمارات العربية المتحدة قاعدة عسكرية في إريتريا، وقد استعملها التحالف السعودي الإماراتي في الحرب في اليمن، فاتكل في معظم الأوقات على القوات والمنظمات شبه العسكرية السودانية لإطلاق العمليات الميدانية. تبني الإمارات راهناً قاعدة عسكرية ثانية في ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال، بينما يخطط السعوديون لإقامة منشأتهم العسكرية الخاصة في جيبوتي المجاورة. كذلك، وسّع البلدان روابطهما التجارية مع القرن الأفريقي وقدّما دفعات نقدية كبيرة للسودان وإثيوبيا. كانت هذه الجهود تهدف بشكلٍ أساسي إلى ضم دول القرن الأفريقي إلى المحور السعودي الإماراتي ضد إيران وقطر وتركيا.

عمدت أهم هيئتين في القرن الأفريقي إلى مجابهة النظام الناشئ الذي يقوده الخليج في المنطقة بوتيرة هادئة لكن ثابتة. سعى "الاتحاد الأفريقي" وكتلة شرق أفريقيا الإقليمية المعروفة باسم "الهيئة الحكومية للتنمية" إلى فرض نظام إقليمي مبني على السيادة والأمن الجماعي للدول الأفريقية. لا يزال الالتزام بالديموقراطية داخل هاتين المؤسستَين ضعيفاً (يتّضح ذلك عبر وجود عدد من القادة الاستبداديين في صفوفهما)، ومع ذلك تتبنى المنظمتان معايير الحكم الدستوري والسيادة المدنية.

حاولت دول الخليج من جهة والمنظمات الأفريقية من جهة أخرى إضفاء طابع رسمي على وجهات نظرها المتعارضة في السنوات الأخيرة. في شهر كانون الأول الماضي، افتتح السعوديون "منتدى البحر الأحمر" الذي يشمل جميع الدول الساحلية في القرن الأفريقي، فضلاً عن المملكة العربية السعودية، اليمن، مصر والأردن. سيتولى المنتدى تنظيم فِرَق عمل على المستوى الوزاري وتنسيق السياسات الإقليمية في مجالات مثل الدفاع، وجمع المعلومات الاستخبارية، والتعاون الاقتصادي، والسياسة البيئية. ومنذ أكثر من سنتين، يسعى "الاتحاد الأفريقي" و"الهيئة الحكومية للتنمية" أيضاً إلى تعزيز الحوار والتعاون لحل مشاكل القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، بما في ذلك التدخل الخليجي. فقرر "الاتحاد الأفريقي" توسيع مهام هيئته الخاصة التي تُعنى بشؤون السودان وجنوب السودان كي تعالج المشاكل الإقليمية المتشعّبة، كما وسّعت "الهيئة الحكومية للتنمية" حديثاً مهام مبعوثها الخاص إلى الصومال كي تشمل البحر الأحمر وخليج عدن. كذلك، عبّر مجلس الوزراء في "الهيئة الحكومية للتنمية" عن تأييده الشديد لتطبيق مقاربة مشتركة بين البحر الأحمر وخليج عدن، وأنشأ في شهر نيسان الماضي فريقاً للبدء بصياغة مقاربة مماثلة.

صراع على السودان

اتّضحت خطوط المعركة في السودان! اصطفّت الرياض وأبو ظبي وراء "المجلس العسكري الانتقالي"، فقدّمتا دعمهما السياسي والعسكري للحكومة الناشئة بعد الانقلاب. (تبنّت مصر وإريتريا موقفاً مشابهاً، علماً أنهما حليفتان أفريقيتان مهمتان للمحور السعودي الإماراتي وتتقاسمان حدوداً طويلة مع السودان). قاد زعيما "المجلس العسكري الانتقالي" (عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دجالو المعروف باسم "حميدتي") القوات السودانية في اليمن، وقد تأثرت المعارك أيضاً بالعلاقات القديمة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. عملياً، جرى تشجيع الجنرالات على إسقاط البشير، على اعتبار أنه غير جدير بالثقة نظراً إلى علاقاته الودّية مع قطر وتركيا وميوله الإسلامية. وتم دعم "المجلس العسكري الانتقالي" بمساعدة قيمتها 3 مليارات دولار غداة سقوط البشير مباشرةً.

انحاز «الاتحاد الأفريقي» و»الهيئة الحكومية للتنمية» إلى الحركة الديموقراطية في السودان ودفعا «المجلس العسكري الانتقالي» إلى التخلي عن السلطة لمصلحة إدارة مدنية انتقالية. كانت جهود المنظمتَين عشوائية وغير منسّقة أحياناً، لكن لطالما بدا موقفهما واضحاً. طالب «مجلس السلام والأمن» النافذ في «الاتحاد الأفريقي»، في منتصف شهر نيسان، بأن يسلّم الجيش السوداني السلطة لحكومة مدنية بعد 15 يوماً من سقوط البشير. وبعد أسبوع تقريباً، مدّد المهلة إلى ثلاثة أشهر. لكن غداة قتل المحتجين، علّق «مجلس السلام والأمن» عضوية «المجلس العسكري الانتقالي» في «الاتحاد الأفريقي»، وهدد بفرض عقوبات إضافية ما لم يتم التوصل إلى اتفاق حول مرحلة انتقالية تقودها سلطة مدنية بنهاية ذلك الشهر. ثم حاول رئيس الوزراء الإثيوبي عقد اتفاق لإطلاق مرحلة انتقالية مبنية على حكم مدني، واتكل على موقف «الاتحاد الأفريقي» و»الهيئة الحكومية للتنمية» كنقطة انطلاق لمساعيه. اتفق الطرفان في نهاية المطاف على تقاسم السلطة طوال ثلاث سنوات، إلى أن تسمح الظروف بتنظيم انتخابات، مع التناوب على قيادة مجلسٍ مؤلف من عدد متساوٍ من الممثلين العسكريين والمدنيين. يبقى الاتفاق هشاً، لكن يبدو «مجلس السلام والأمن» مستعداً لمراقبة تنفيذه قبل ضم السودان مجدداً إلى «الاتحاد الأفريقي».

يبدو أن أحداث السودان ستُحدد مستقبل القرن الأفريقي خلال العقد المقبل أو العقود اللاحقة على الأرجح. إذا تمسّك «المجلس العسكري الانتقالي» بالسلطة، لن تضمن الرياض وأبو ظبي بذلك حليفاً سياسياً وعسكرياً مهماً فحسب، بل إنهما ستنجحان في إثبات نفسيهما كصناع ملوك قادرين على فرض أولويات السياسة الخارجية على بلدان القرن الأفريقي واستباق التحولات الديموقراطية. لكن إذا تمكن «الاتحاد الأفريقي» و»الهيئة الحكومية للتنمية» من قيادة المرحلة الانتقالية تمهيداً لنشوء حكومة مدنية في السودان، سيضعان بذلك حجر الأساس لإنشاء نظام إقليمي مختلف جداً وقادر على تحسين التنمية وإرساء السلام والحكم المسؤول.


MISS 3