رازميغ بدريان

فسيفساء "آيا صوفيا"... تاريخ غنيّ وقيّم

18 تموز 2020

المصدر: The National

02 : 00

تحمّلت الفسيفساء في "آيا صوفيا" مشقات كبرى منذ بناء بنيتها البيزنطية في القرن السادس، بدءاً من تغطية الجداريات بالكلس وعمليات النهب وصولاً إلى التدنيس المباشر. اليوم، بعد إعادة تحويل الموقع إلى مسجد، يخشى الكثيرون أن يتعرّض للتهديدات مجدداً.

يوم الإثنين الماضي، حاول متحدث باسم "حزب العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا طمأنة منتقدي تحويل المتحف إلى مسجد حول سلامة الفسيفساء، فأعلن عن تغطيتها بستائر أو أضواء ليزر أثناء الصلوات. لكن لا أحد يعرف بعد طريقة عمل الليزر في بنية يفوق طولها الخمسين متراً.

شملت "آيا صوفيا"، على مر مئات السنين الأولى بعد تشييدها، عدداً من أكثر الفسيفساء تطوراً في عصرها. كانت الأعمال البيزنطية مصنوعة من قطع صغيرة من الزجاج والحجر والسيراميك، فضلاً عن أوراق الذهب، وقد فضّلت أسلوب الرمزية على الواقعية، على عكس القطع اليونانية والرومانية الكلاسيكية التي سبقتها.

ابتكر الرسامون صوراً مثالية ومبالغاً فيها تعكس مكنونات روح الإنسان من وجهة نظرهم. أرادوا بذلك أن ينشروا أجواء من الرهبة والدهشة ويُلمِّحوا إلى أنهم يحتلّون عالماً روحياً.

لكن لم تحصد هذه الأعمال إعجاب الجميع. ثم تدمّرت كلها في القرنَين الثامن والتاسع خلال حركات الهرطقة الأيقونية البيزنطية التي أدانت استعمال الصور والأيقونات الدينية. صُنِعت معظم الفسيفساء التي تُزيّن جدران النصب التذكاري اليوم بين القرنَين العاشر والثاني عشر، لكنها تعرّضت للهجوم أيضاً.



وضع منصة ضخمة داخل متحف آيا صوفيا لإنجاز أعمال الترميم بعدما كشف الخبراء عن واحدة من فسيفساء الملائكة الستة غداة إخفائها طوال 160 سنة وراء طبقة من الجص وقناع معدني. تفاجأ الخبراء حين لاحظوا أن الفسيفساء التي تعود على الأرجح إلى القرن الرابع عشر حُفِظت بطريقة متقنة.



خلال الحملة الصليبية الرابعة في العام 1204، هاجم الصليبيون اللاتينيون الكاتدرائية ودنّسوها قبل إسقاط البطريرك واستبداله بأسقف لاتيني. في خضم هذه الأحداث، أُزيلت أعداد كبيرة من الفسيفساء الجميلة ثم شُحِنت إلى مدينة البندقية.

وفي العام 1453، بعد الفتح العثماني للقسطنطينية وتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، تمت تغطية الفسيفساء بالكلس والجص. ثم كُشِف النقاب عنها في العام 1847، حين أعاد الأخوان فوساتي ترميم الموقع.

نسخ هذان المهندسان المعماريان السويسريان تلك الفسيفساء للاحتفاظ بها في سجلاتهما قبل تغطيتها مجدداً. ثم بقيت خفيّة حتى العام 1931، عندما أطلق العالِم والمهندس المعماري الأميركي توماس ويتيمور برنامجاً لاسترجاعها.

إنطلقت هذه الجهود قبل ثلاث سنوات على صدور المرسوم الذي يُحوّل تلك التحفة المعمارية إلى متحف بقرار من مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية.

تلك الخطوة حوّلت النصب التذكاري إلى إرث عالمي واحتفلت بقيمته التاريخية وجعلت اسطنبول مركزاً لتنوّع الثقافات والأديان.

إرتفعت "آيا صوفيا" في أفق المدينة، بقبابها المميزة ومآذنها الشاهقة، وتوّجت سماء اسطنبول قبل أن تحمل هذه المدينة العابرة للقارات اسمها.

يمكن اعتبار هذه البنية التي تحمل لون الطين أهم قطعة أثرية بيزنطية صمدت حتى هذا العصر، ولطالما كانت وظيفتها مقياساً للظروف السياسية في هذه المدينة.

لهذا السبب على الأرجح، قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحويل الموقع إلى مسجد مجدداً. يظن المحللون أن هذه الخطوة هي محاولة مقنّعة لترسيخ إرثه وزيادة نفوذه في أوساط قاعدته المحافِظة في تركيا. بعبارة أخرى، إنها طريقة لتحويل الانتباه عن الوضع الاقتصادي المضطرب محلياً.

لكن يخشى الكثيرون أن يطرح قرار أردوغان تهديداً على إرث "آيا صوفيا" العابر للثقافات ومصير الفسيفساء فيها.



فسيفساء الملاك بعد الكشف عنها في متحف آيا صوفيا في العام 2009



أهم قطع الفسيفساء في "آيا صوفيا"

تُعتبر الملائكة التي تزيّن جوانب القبة المركزية من أبرز الفسيفساء داخل "آيا صوفيا". يُقال إن تجويف القبة كان مزيّناً في السابق بصليب ضخم، ثم بفسيفساء "السيد المسيح الضابط الكل". صُنِعت فسيفساء السارافيم، أي الملائكة بأجنحتها الستة، في القرن التاسع وكانت تزيّن الحافة في محيط القبة على اعتبار أنها تحمي الصورة المركزية. كانت وجوه السارافيم مغطاة بالنجوم في العام 1609، في عهد السلطان العثماني أحمد.

كشف الأخوان فوساتي عن الملائكة ورسما نسخة عنها في مذكراتهما، ومع ذلك أُخفِيت وجوه الملائكة مجدداً.

في العام 2009، كشف الخبراء عن واحد من الملائكة الستة في الفسيفساء داخل "آيا صوفيا" بعد إخفائه طوال 160 سنة وراء طبقة من الجص وقناع معدني. تفاجأ الخبراء حين اكتشفوا أن الفسيفساء التي تعود على الأرجح إلى القرن الرابع عشر حُفِظت بهذه الطريقة المتقنة. تقع فسيفساء لافتة أخرى على سطح الجدار الثلاثي، فوق "البوابة الإمبراطورية". كان الأباطرة يستعملون تلك البوابة عند الدخول إلى الكنيسة.

ترصد الفسيفساء الإمبراطور (يظن المحللون أنه يمثّل ليو السادس الحكيم أو ابنه قسطنطين السابع) وهو ينحني أمام المسيح الجالس على عرش مُرصّع بالجواهر ويحمل كتاباً مفتوحاً عليه عبارة: "السلام لكم. أنا هو نور العالم".ثمة ميداليات دائرية على كل طرف من جنود المسيح. تظهر مريم العذراء على جانب منها، ورئيس الملائكة جبرائيل على الجانب الآخر.

تبرز أيضاً فسيفساء مهمة أخرى لمريم العذراء مع الطفل، وقد كانت من أوائل القطع المصنوعة بعد حقبة الهرطقة الأيقونية. تظهر فيها العذراء وهي تجلس على عرش بلا مسند ظهر والطفل يسوع في حضنها. تستند قدماها إلى قاعدة مرصّعة بالأحجار الكريمة. وُضِعت هذه الفسيفساء، على غرار القطع الأخرى في الحنية، في الخلفية الذهبية الأصلية من القرن السادس.

تُعتبر فسيفساء الإمبراطورة زوي مثيرة للاهتمام بالقدر نفسه. هي تعود إلى القرن الحادي عشر وتجسّد الإمبراطورة زوي على اليمين فيما تحمل لفافة عليها التبرعات المُقدّمة إلى الكنيسة.





فسيفساء الإمبراطورة زوي

على يسار الفسيفساء، يظهر الإمبراطور قسطنطين التاسع وهو يحمل كيساً من النقود المعدنية في يده كرمز للتبرعات أيضاً. يجلس السيد المسيح على عرشٍ في الوسط وهو يلبس رداءً أزرق اللون ويحمل الإنجيل ويعطي البركة بيده اليمنى.

ثمة مجموعة أخرى من الأعمال الفنية التي تختلف عن الفسيفساء لكنها استثنائية بالقدر نفسه.

نُحِتت جِرار تطهير واسعة من كتلة رخام واحدة. أما عمود الأمنيات، فيُقال إنه يصبح رطباً عند لمسه وبالتالي يتمتع بقوى خارقة للطبيعة. كذلك، يشمل الموقع مقر السلطان الفخم وغرفة الإمبراطورة.

يعجّ باب الرخام (يُسمّى أيضاً "باب الجنة والجحيم") بصور الفاكهة والأسماك، وثمة مخطوطات من عصر الفايكنغ حول الموقع وكُتِب على إحداها "هالفدان مرّ من هنا". يبدو هذا النقش أقرب إلى خربشات طلاب المدارس، لكن كتبه فعلياً أحد مرتزقة الفايكنغ.

لم يسبق أن زرتُ "آيا صوفيا" شخصياً. وفيما يعبّر الكثيرون اليوم عن امتنانهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأنهم زاروا هذا المكان قبل صدور قرار أردوغان الأخير، بدأتُ أشعر بالندم لأنني لم أزره سابقاً.

قبل عشر سنوات، عاد أحد أقاربي إلى سوريا بعد رحلة صيفية أمضاها في اسطنبول طوال أسبوع، فوصف لي ذلك النصب التذكاري المدهش بعبارة "مكان يفوق الوصف"، وراح يهز رأسه ويصفر لأنه لم يجد الكلمات المناسبة للتعبير عن عظمة ما شاهده. لم يكن وصفه شاعرياً بقدر كلمات العالِم البيزنطي بروكوبيوس الذي وصف القبة الأساسية في الموقع خلال القرن السادس بما يلي: "يبدو أنها لا تقوم على بناء صلب، بل إنها تتدلى من السماء". مع ذلك، تأثرتُ شخصياً بتعابير الدهشة التي استعملها قريبي.

لقد أردتُ أن أزور "آيا صوفيا" طبعاً، لكن لم تسنح لي الفرصة سابقاً للأسف. لكني قرأتُ عن تاريخها وعرفتُ أنها كانت كنيسة لأكثر من 900 سنة ومسجداً طوال 500 سنة تقريباً. شاهدتُ صور هندستها المعمارية التي بدت لي خليطاً سلساً من العناصر المشتقة من الديانتَين معاً. صحيح أنني أُعجبتُ بما شاهدتُه في الصور، لكن لم تُصِبني الدهشة العارمة التي تكلّم عنها قريبي.

لا يمكن الشعور بذلك السحر من دون التواجد هناك شخصياً... على أمل أن أزور "آيا صوفيا" يوماً وأشاهد جميع التفاصيل التي قرأتُ عنها!


MISS 3