حسان الزين

عندما نكتب بالفصحى نترجم ما نعيشه بالعامية وهذا تناقض ورقابة يؤثران في النص

الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي: الثقافة يُمكن أن تُحاصر الصراعات لكنها لا تُلغيها

2 آذار 2024

02 : 05

خالد المعالي: ما زالت المتعة في نشر الكتب الجميلة

خالد المعالي شاعر حتّى في نشر الكتب الذي يعمل فيه منذ أربعة عقود. وقد منح ذلك «دار الجمل» التي أسسها في ألمانيا ويديرها الآن من لبنان شخصية خاصة. فهي، إضافة إلى نشاطها في ترجمة أعمال فكرية وأدبية ذات أهمية في الثقافة الأوروبية، تحافظ على مستوى في اختيار ما تصدره. وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها نشر الكتب، والتغيرات التي تعصف في سوقها ومزاجات القراءة، ما زال المعالي يحتفي بـ»متعة نشر نص جيد». والمعالي الذي ترجمت أعمال شعرية له إلى الألمانية والفرنسية وغيرهما، نقل إلى العربية العديد من نصوص الشعر الألماني. معه هذا الحوار:



أنت شاعر عراقي وأطلقت «دار الجمل» للنشر من ألمانيا، واهتممت بترجمة الثقافة الأوروبية. الآن، لا سيما بعد حرب غزة، ثمة تشنج واتهام في العالم العربي تجاه الغرب الذي يُنظر إليه منحازاً إلى إسرائيل، كيف تقرأ ذلك؟

إشكالية اتهام الآخر والعداء له موجودة دائماً وتبرز بين فترة وأخرى، بطريقة ما، بحسب الصراع. للأسف، الصراع ما زال كما هو. والنتائج الصعبة أو الكبيرة تعود. تحدث من جديد، وبالمواد نفسها والكلمات العدائية ذاتها التي كانت تُستخدم. السياسة هي ما يحدد ارتفاع حدّة الصراع أو انخفاضها. الصراعات الشعبوية تشتعل فجأة وتنطفئ. هذه أمور طبيعية، لا يعني عدم وجودها انهيار الصراع أو اختفاءه، ولا العكس.

لكنّ ثمة جانباً آخر قائم ومستمر ولا علاقة له بالصراعات التي تحدث بين فترة وأخرى. وهو النشاط الثقافي، والدليل على ذلك أننا نحن نترجم وهم يترجمون. الثقافة يمكن أن تحاصر الصراعات، أو تخففها، بطريقة ما، لكنها لا تلغيها. الصراعات، على ما يبدو، من طبيعة البشر.





هل ما يحصل أثّر على خطط مؤسستك؟

تأثير الصراعات مؤكّد، سلباً أو إيجاباً بحسب الأوضاع. لكن أنا مستمر في مشروعي، مع أخذ التأثيرات بعين الاعتبار. لدينا مثلاً مجموعة كتب فلسفية يمكن أن تُترجم اليوم للمرة الأولى إلى اللغة العربية، وأن تُقرأ وتُدرَس وتُناقَش، لكن الأجواء قد تحجبها فلا تحظى بالاهتمام. لا يعني ذلك أن تلك الكتب ليست مهمّة، بل هي أساسية، إنّما الاهتمام بها يتراجع أو يختفي. أحاول أن أوفّق بين الظروف والخطط. هناك كتب لا أستطيع أن أستمر في إنجازها، مثلاً، لأنها لن تنتشر ولن يهتم بها أحد. القارئ يتأثر بالظروف، واهتماماته تتغير.

تهتم «دار الجمل» بالمنتج الفكري، إضافة إلى الأدبي، لكن حصة المنتج الفكري الأجنبي أكبر، لماذا؟

المنتج العربي في تراجع واضح. وهذا أمر مؤسف لكنه موجود. والقارئ العربي يطلب منتجاً فكرياً عربياً، لكن هذا محدود. وما يُعرض عليّ وأراه مؤهّلاً للنشر محدود جداً. معظم الكتابات الفكرية العربية مجرد تكرار. وهذا ما يفسّر النسبة المحدودة من الكتب الفكرية العربية في منشوراتنا في الفترة الأخيرة.

لديك رأي يقول إن الكتّاب والشعراء العرب يعيشون ويحكون اللهجات العامية ويكتبون بالفصحى، ما يؤثر سلباً في منتجهم وفي علاقة القراء بما يكتبون. هل يمكن أن تعرضه؟

نحن نتحدث في معيشنا، في البيت ومع الناس، في لهجات مختلفة، مصرية، عراقية، سورية، لبنانية، وعندما نكتب قصّة أو رواية أو قصيدة نستعمل اللغة الفصحى. وهذا يعني أننا نترجم إلى لغة أخرى. الإشكالية هنا. ما هو الأدب الصحيح؟ هل هو الأدب المكتوب باللغة الفصحى أم الآخر الذي يكتبه الأدباء والشعراء، ومنهم مظفر النواب، باللهجات العامية؟ هذه هي المشكلة. وخلال عملية الترجمة هذه، نمارس الحذر والرقابة التي يفرضها المجتمع. حينما نكتب باللغة الفصحى، تخرج القصيدة أو القصة أو الرواية وكأنها مراقبة. وإذا ما نجت من الرقابة، لسبب ما، فإنها ستقع في رقابة الجريدة أو دار النشر. وهذا ما يضع عثرة كبيرة بين القارئ المنتظر والمنتج الأدبي.

وهذه الرقابة تجعلنا لا نعبر عن الواقع الاجتماعي. ويغدو حضور المواد أو الإشكالات التي يجب أن نتحدث عنها في القصيدة أو القصة والرواية محدوداً وغير ناقع.



خالد المعالي مع سركون بولس وعبد القادر الجنابي



ماذا يقتضي ذلك، إلى ماذا تدعو؟

يقتضي أن نكتب بلغة اليوم. نحتاج إلى لغة أخرى. لغة تعبّر عن المعاش اليوم. في ألمانيا، مثلاً، يكتبون باللغة التي يعيشونها، وبالتالي تعبّر عن الواقع اليومي. بينما نحن لا نكتب عن الواقع اليومي. نحن نكتب ونعبر بطريقة مختلفة وبعيدة جداً. هناك صراع شديد، وهناك بُعدٌ وانفصال.

ليس الأمر دعوة إلى الكتابة بالعامية أو هجر الفصحى. الأمر في رأيي له علاقة بكيفية استعمالنا اللغة. نحن نسأل هل هذا النموذج ناجح أم غير ناجح؟ نحن نعيش في تناقض، في انعدام الموهبة.

من تجربتك كشاعر، هذا الأمر يؤثر في إبداعية النص عندما تستعمل اللغة الفصحى، بينما لو كتبت باللهجة التي تعيشها يكون النص حرّاً أكثر وأصدق مع ما تريد قوله؟

لا أستطيع أن أجيب، لأنني لست نموذجاً. لكن، عندما أسمع قصيدة بالعامية تمسكني من الكلمة الأولى، في حين لا يحصل ذلك مع قصيدة بالفصحى.

هل أسهم ذلك في إبعاد المنتج العربي الفكري والأدبي عن القارئ؟

أكيد أسهم. لا قارئ الآن يهتم بالكتابات العربية بشكل أساسي. هناك قراء قليلون جداً. نتحدث عن مجموعة قراء. عندنا 300 مليون مواطن عربي، نطبع لهم ألف نسخة من أي كتاب، وغالباً ما لا يُباع أكثر من مئة نسخة.

لقد طرحت التجارب والتيارات الأدبية هذه الإشكالية، كيف تقيم نتائجها؟

هذه التجارب والمجلات، «شعر»، «الآداب»، «حوار» و»مواقف»، كلّها حاولت، وكلٌّ منها بطريقتها واتجاهها، كلها استخدمت طرقاً واتجاهات، ولكنها لم تنجح، لأنها لم تمتلك الإمكانات الواضحة. لم يمتلك أحد شجاعة الشاعر يوسف الخال الذي دعا إلى الكتابة بالعامية. لكن شجاعته جاءت في سنواته الأخيرة. ولم تفد.





هناك توجهات مختلفة للقراء، بين بلد وآخر، وظرف وآخر... هل يمكن أن نرسم المشهد؟

توجّهات القراء متحرّكة، وتتغير بين عامل وآخر، وظرف وآخر. كل وضع سياسي جديد يفرض شروطه وتغيّراته على المجتمع. في العراق، مثلاً، ليس هناك قارئ واحد، بمعنى أن ليس هناك مزاجاً يوحّد القراء. هناك قراء مختلفون. وهذا هو الوضع في البلدان الأخرى، حيث هناك طلب اليوم على كتاب وغداً الطلب على كتاب آخر. وهناك كتب تُطلب في كل مكان. كتب إميل سيوران أو فردريك نيتشه تُباع في المغرب وتونس والسعودية وعُمان.

لا يمكن مقارنة بلد كبير ببلد آخر. مثلاً، المعرض في الإمارات جيد، بينما معرض بغداد أو أربيل محدود. وفي الوقت نفسه، أنا أتعامل مع أكثر من 30 مكتبة في العراق، بينما أتعامل مع 3 أو 4 مكتبات في الإمارات.

وفي خصوص نوع الكتاب، هل الكتاب الديني هو الأكثر طلباً؟

للكتاب الديني سوقه، وهو ثابت مع تغيرات، صعوداً وهبوطاً. في حين أن الكتب الجديدة، كتب مثل منشورات «دار الجمل»، لديها دور آخر. تأخذ طرقاً أخرى. تزور أماكن أخرى. تخاطب أناساً آخرين. الكتاب الديني لا يحتل المساحات كلها. بالعكس، يمكن التحدث الآن عن تراجع الكتاب الديني. لدينا كتب أخرى، نقد اجتماعي، نقد ديني، نقد فقهي، وهي كتب دينية لكنها ليست دينية بالمعنى الأيديولوجي الدعائي، بل كتب مختلفة، وهي مطلوبة، ولها قراء.

يُلاحظ أن الكتب الأدبية العربية محدودة لدى «دار الجمل»، بينما يحضر الكتاب الأجنبي المترجم، لماذا؟

الأدب العربي قليل عندي لأنني لا أجد كتباً جيدة لمؤلّفين عرب. نشرت كتباً طبعت منها ألف نسخة لكنها لم تلقَ الاهتمام. قراء الأدب العربي الحالي محدودون جداً. والكتب الأجنبية لا تُطلب كلها بالمستوى نفسه. أدبيّاً، كتب جرجي لويس بورخيس وجوزيه ساراماغو وماريو فارغاس يوسا لها مكان دائم. والطلب عليها مستمر. وفلسفياً، كتب نيتشه إيمانويل كانط لها مكانتها. وهي تُطلب وتُقرأ وتُناقش. نحن في مجتمع متحذلق، والانفتاح محدود. وهناك كتب أساسية ومهمة لا أحد يهتم بها. كتاب «على الطريق» (On the Road) لجاك كرواك، تُرجم ونُشر قبل عشر سنوات، وما زالت أكثرية نسخه الألف موجودة، علماً أنه أسهم في بيع ملايين النسخ من بناطلين الجينز. وفي الأثناء، ربما يأتي كتاب تافه ويبيع آلاف النسخ.



خالد المعالي مع الروائي المغربي محمد شكري والشاعر العراقي سركون بولس



بهذا الجو، هل تنازل خالد المعالي؟

ربما هناك تنازل ولم أحس به. لكن، ما زالت المتعة في نشر الكتب الجميلة التي تعتقد أنها مثلت يوماً ما قراءة أو منظوراً جميلاً. وفي أمور الكتاب لا مكان لحسابات الربح والخسارة.

هناك محاولات شديدة وحثيثة لترتيب الأمور الاقتصادية. نشر هذا الكتاب أو عدم نشر ذاك... إلخ. لكن، دائماً نشر الكتاب الجيد لا تقف أمامه الأمور الاقتصادية.


منتقيات من «رعويات صنين وقصائد أخرى»


1-  ثم عدت لنفسي، أشاورها

متى كان هذا؟ متى حل البؤسُ

ثم سارَ يرينا الحياةَ، أطرافها

عدةَ اللهاث، نرى خيامَ الهجيرةِ

تتبعنا من هناك، نرى الهناكَ،

اللقى مطروحةً وسطَ المدينة.




2-  لم يعد يدري، شارداً، في ثوبهِ

الرث، وقد حالَ لونهُ، فيما أقدامهُ

كلها جراحٌ، تخطو في الحقل الواسع

متى كانَ هذا؟ أينَ؟ بيضة القطا

تلوحُ، نمشُها يُظهر ويُخفي، وخياله

تاهَ، لا مياه، بل سرابٌ يبدو من بعيد.




3 - ومن هنا نبعتْ رؤاهُ، فقطع الخيط

الذي كانَ لديه، ورمى بعكازه إلى الوادي

أيامه لم تعدْ تجيءُ، وليلهُ آفلٌ تماماً

كانَ يداري روحَهُ بميتِ الكلماتِ، يصفرُ

لحنها مثلما كانَ يفعلُ دائماً، فيما يمد

راحَهُ عالياً، يشكو بصمتٍ يباسَ الطبيعة...




4- حياتهُ التي كانت حُطاماً، شالها اليومَ بكيسٍ

وسار في جنازةِ نفسه، مَن لهُ حقاً

ومنْ كانَ بانتظاره؟ شاردَ الذهن، يراقبُ...

شعره الذي يقصه بيديه

وقد ابيض، أسنانهُ وقد لاحها الهرَمُ،

بصرُه وقد كل

وأفلسَ في كل شيء...

فاستراحَ في قبرهِ، ونسيَ الحياةَ التي كانت له.

MISS 3