بول تايلور

ماكرون يحتاج إلى معجزة إقتصادية لإنقاذ عهده

21 تموز 2020

المصدر: Politico Magazine

02 : 00

قد يقضي فيروس "كوفيد - 19"على آمال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعادة انتخابه في العام 2022. ربما انتصر هذا الزعيم الوسطي الشاب على الساحة الأوروبية عبر إقناع ألمانيا بتطبيق آلية الاقتراض المشترك لدعم صندوق ضخم مخصّص لتعافي الاتحاد الأوروبي. لكن على الساحة المحلية، يواجه ماكرون رأياً عاماً يصعب إرضاؤه فيما يحاول استرجاع ثقة الناس وإنقاذ الاقتصاد بعدما دمّره الوباء. في غضون ذلك، تبدو زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في حالة تأهب، فهي مستعدة لاستغلال موجة الغضب الشعبي بسبب مشاكل البطالة ومستوى المعيشة في حال تعثّر ماكرون.


يدرك الرئيس الفرنسي حجم التحديات التي يواجهها، لذا حذّر المواطنين خلال مقابلة كئيبة في اليوم الوطني الفرنسي من "الأشهر الصعبة التي تنتظرنا". كذلك، تعهد ببذل قصارى جهده لكبح موجة مرتقبة من تسريح العمال وإغلاق الشركات بسبب فيروس "كوفيد-19" ووعد بإعادة بناء اقتصاد مكتفٍ ذاتياً وأكثر خضاراً ونظافة.

لكن من المتوقع أن يضطر سريعاً للاختيار بين هذين الهدفين. فيما تحارب فرنسا للنهوض من أعمق صدمة اقتصادية تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، لا مفر من أن يكون الصراع، بين حماية الوظائف القديمة وتغيير طبيعة الاقتصاد، شرساً.

رغم الإنفاق الحكومي الضخم على تدابير الإجازة الموقتة لتخفيف وطأة الصدمة المرافقة للإقفال التام طوال شهرَين، يُعتبر الاقتصاد الفرنسي من أكثر الاقتصادات تأثراً في أوروبا.

قبل إقفال البلد بسبب فيروس كورونا، تراجعت نسبة البطالة إلى 7.8% (لا تزال أعلى من المتوسط المسجّل في الاتحاد الأوروبي، لكنه أدنى معدل في فرنسا منذ الأزمة المالية في العام 2008). كان الرئيس يتجه إذاً إلى تحقيق هدفه بتخفيض النسبة إلى أقل من 7% بحلول العام 2022، فقد شهدت الاستــــثمارات وتســـجيلات الشركات الجديدة والتدريبات المهنية ازدهاراً لافتاً.

لكن جـــاء الوباء ليقضي على ذلك التقـدم كله، والأسـوأ لم يأتِ بعد، إذا سُـجّلت ذروة ثانية من الإصابات بفيروس "كوفيد - 19" في الخريف والشتاء المقبلَين، أو إذا فرضت هذه العدوى تكرار تدابير الحجر الصحي محلياً، ما يعني أن تنتشر أجواء التوتر وتضعف ثقة المستهلكين مجدداً.

تتوقع المفوضية الأوروبية هبوط الناتج الفرنسي هذه السنة بنسبة 10.6%، وهو معدل أقل حدّة بقليل من إيطاليا وإسبانيا. كذلك، يتوقع بنك فرنسا ركوداً بنسبة 9%. وحتى لو تحقق انتعاش اقتصادي كبير في السنة المقبلة، من المستبعد أن يعود الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى الذي كان يسجّله قبل الأزمة بحلول الانتخابات الرئاسية الفرنسية في نيسان 2022. في الوقت نفسه، عاد شبح البطالة الجماعـــــية إلى الواجهة.

على صعيد آخر، من المتوقع أن يرفع الإنفاق على الأزمات الدين العام الفرنسي الذي بلغ أصلاً 100% من الناتج المحلي الإجمالي قبل انتشار الوباء، فيفوق عتبة 120%. أعلن ماكرون أن الدين الإضافي المرتبط بفيروس "كوفيد - 19" يمكن وضعه في حساب منفصل ودفعه على المدى الطويل.





قد لا يطرح تمويل الدين مشكلة في فرنسا، لكنّ أعباء الديون والمستويات المرتفعة من الإنفاق العام قبل الأزمة الأخيرة تُضيّق هامش المناورة أمام ماكرون. سيكون المسار الذي يتخذه، بغض النظر عن طبيعته، نتاج خيارات اقتصادية صعبة.

حتى الآن، يحاول ماكرون التلاعب بجميع الخيارات. خلال خطابه في اليوم الوطني الفرنسي، أعلن أن الحكومة ستنفق حوالى 100 مليار يورو على خطط التعافي الوطنية، بما في ذلك تمويل عزل المباني العامة وتخفيض انبعاثات الكربون، ودعم طاقة الهيدروجين النظيفة، وتجديد إنتاج بعض الإمدادات الاستراتيجية، وتعزيز الاستثمارات في مجالات الصحة العامة والثقافة والتعليم. تُضاف هذه المشاريع إلى المبالغ المدفوعة أصلاً كإعانات للإجازة الموقّتة بقيمة 460 مليار يورو تقريباً والإعفاءات من الأعباء الاجتماعية والقروض المُيسّرة لتعويم الشركات.

أضاف ماكرون أن "التركيز في الخريف المقبل سيصبّ على إنقاذ أكبر عدد ممكن من الوظائف وخلق فرص عمل جديدة"، معترفاً باحتمال أن تصل الوظائف المفقودة إلى مليون وظيفة في بداية العام 2021. كذلك، أعلن الرئيس الفرنسي عن سلسلة تدابير، منها إعفاءات من الأعباء الاجتماعية لمساعدة الشبان على دخول معترك العمل، ودعم 300 ألف وظيفة جديدة، وتوفير 200 ألف فرصة في مجال التدريب المهني، وتأمين 100 ألف مكان إضافي في الخدمة المدنية التطوعية.

لكن إذا أراد سادس أكبر اقتصاد في العالم أن يسترجع توازنه الاقتصادي، لن تكفيه الخطط النظرية. بل إنه يحتاج إلى نموذج اقتصادي جديد.


قد لا يعود جزء كبير من أبرز الصناعـــــات المحلية وأربـــاب العمل إلى مستويات ما قبل الأزمة الصحية الأخيرة في مجالات مثل الفضاء والسيـارات والضيافة والسلـــع الفاخرة والسياحـة. تعرّض قطاع الثقافــة والترفيه لضربة موجعـة أيضاً في ظل إلغـاء المهرجانات والحفلات الموسيقية والعروض المسرحية.

قبل الأزمة المستجدة، كانت فرنسا أول وجهة سياحية في العالم، وقد قصدها 89.4 مليون زائر في العام 2018. كذلك، يشمل هذا البلد واحدة من أكبر شركتَين لتصنيع الطائرات في العالم، وهي شركة "إيرباص" التي أعلنت للتو عن تسريح 5 آلاف عامل، وواحدة من أكبر شركات الطيران في أوروبا، وهي "الخطوط الجوية الفرنسية - كيه إل إم" التي تخطط بدورها لتسريح 7580 موظفاً من طاقمها.

تعكس هذه التخفيضات الأولية في عدد الموظفين جزءاً بسيطاً من المشكلة الكبرى، لكنها أطلقت منذ الآن احتجاجات نقابية ودعوات تناشد الحكومة أن تضمن خططها الإنقاذية الحفاظ على مستويات التوظيف التي سبقت أزمة "كوفيد - 19".

من المتوقع أن تتصاعد الضغوط الشعبية للحفاظ على الوظائف القائمة منذ القرن العشرين بدل السماح بتوسّع تداعيات الأزمة تزامناً مع دعم الانتقال السريع إلى اقتصاد رقمي ومنخفض الكربون. ونظراً إلى الثقافة الوطنية التي ترتكز أحياناً على إطلاق احتجاجات عنيفة تعيق جهود ماكرون لإصلاح قانون العمل ومعاشات التقاعد وضريبة الكربون، تواجه حكومته المُعدّلة بقيادة رئيس الوزراء الجديد جان كاستيكس سخطاً عارماً في ظل تصاعد حالات التسريح من العمل وانهيار الشركات وزيادة المصاعب التي يواجهها خرّيجو المدارس والجامعات في قطاع العمل بسبب أزمة فيروس كورونا.



الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الجولة الثانية من الانتخابات البلدية الفرنسية التي تأخرت بسبب انتشار Covid-19 في Le Touquet (فرنسا) في 28 حزيران 2020



ومع اقتراب موعد الانتخابات بعد أقل من سنتين، من المتوقع أن يتعرض ماكرون لضغوط قصوى لدرجة أن يستسلم للنفعية السياسية.

لم تتحسن نتائج الرئيس الفرنسي في استطلاعات الرأي في زمن كورونا بقدر القادة في ألمانيا وإيطاليا أو حتى بريطانيا، مع أن سجلها في محاربة الفيروس أضعف من غيرها. بل تكشف الاستطلاعات أن عدداً كبيراً من الناخبين الفرنسيين يلومه على نقص أقنعة الوجه وأجهزة التنفس الاصطناعي والملابس الواقية في المرحلة الأولى، ويظن هؤلاء أن إدارته كذبت على الرأي العام بشأن حجم النقص الحقيقي. ورغم جهود ماكرون لطرح نفسه كشخص متعاطف مع الآخرين ومستعد للإصغاء إلى مشاكلهم، لا يزال يُعتبر على نطاق واسع "رئيس الأغنياء".

كشفت الانتخابات البلدية في الشهر الماضي مدى صعوبة التوازن الذي يحتاج ماكرون إلى إقامته فيما يحاول إرضاء سكان المدن المنتمين إلى الطبقة الوسطى، علماً أن هذه الفئة من الناس انتخبت جيلاً جديداً من رؤساء البلدية اليساريين والداعمين للبيئة، والناخبين في الأرياف والضواحي حيث ينشغل الناس بكسب المال في نهاية كل شهر أكثر مما يهتمون بمصير كوكب الأرض، وقد صوّتوا في معظمهم لصالح المحافظين.

يكشف قرار ماكرون بتعيين كاستيكس، رئيس بلدية يميني وسطي يتكلم بلكنة المناطق الجنوبية الغربية، الوجهة التي يخطط الرئيس لاتخاذها، وقد اتضحت وجهته أيضاً حين رفض زيادة الضرائب على أصحاب المداخيل المرتفعة أو إعادة فرض ضريبة على الثروات لدفع تكاليف التدابير المرتبطة بالأزمة الأخيرة.

بعدما فشل حزبه "الجمهورية إلى الأمام" في كبح أعمال الشغب المحلية في عدد كبير من المناطق، استنتج ماكرون على ما يبدو أن مارين لوبان ستكون منافسته الأساسية في العام 2022 وأن الناخبين اليمينيين الوسطيين وحدهم يستطيعون إيصاله إلى الجولة الانتخابية الأخيرة ضدها.

لكن قد يكون هذا الرهان خطيراً. تراجعت نتائج حزب "التجمع الوطني" الذي ترأسه لوبان بدرجة معينة خلال أزمة فيروس كورونا، فلم تحصد مواقفها المعادية للمهاجرين والاتحاد الأوروبي انتباهاً واسعاً ولم تحقق مكاسب كبرى في الانتخابات البلدية. لكنها قد تسترجع الزخم المفقود في ظل تصاعد التكاليف الاجتماعية التي سبّبها الوباء. حتى أن الناخبين اليساريين قد يفضلون ملازمة منازلهم على التصويت لصالح ماكرون في الجولة الأخيرة من الانتخابات، كما فعلوا في العام 2017. باختصار، يحتاج ماكرون إلى معجزة اقتصادية والكثير من الحظ في تعامله مع الوباء المستجد للحفاظ على منصبه وإنقاذ فرنسا من سطوة لوبان.


MISS 3