جاد حداد

The Meddler... أعمق مما يوحي به

8 آذار 2024

02 : 00

قد يكون عنوان فيلم The Meddler (المتطفلة) مُضللاً بالنسبة إلى هذه القصة المؤثرة والعميقة. تلعب سوزان ساراندون دور «مارني مينيرفيني»، وهي أم في الستينات من عمرها تنتقل من نيويورك إلى لوس أنجليس للعيش بالقرب من ابنتها، كاتبة السيناريو «لوري» (روز بايرن) التي انفصلت للتو عن حبيبها الممثل (جايسون ريتر). تتصل «مارني» بابنتها مراراً كل ساعتين وتترك لها رسالة حين لا تردّ عليها، ثم ترسل عشر رسائل أخرى على مر اليوم عندما تقلق عليها. لا تتحمّل ابنتها هذا النوع من الإصرار، لذا تستعمل «مارني» أمومتها للاعتناء ببعض الغرباء، فهي تُشجّع الموظف اللطيف «فريدي» في متجر «آبل» (جيرود كارمايكل) على دخول الجامعة، حتى أنها تعرض عليه أن تصطحبه وتجلبه بنفسها. وعندما تكتشف أن أماً شابة اسمها «جيليان» (سيسيلي سترونغ) تعجز عن تحمّل كلفة زواجها، تعرض عليها دفع التكاليف بنفسها.

قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى مجرّد قصة خفيفة عن علاقة الأم وابنتها، بالإضافة إلى خط رومانسي مرتبط بشخصية «مارني»، إذ يتقرب منها رجلان مطلّقان: «مارك» الجدّي والذكي (مايكل ماكين)، والشرطي السابق «زيبر» (جي كي سيمونز) الذي يربّي الدجاج، ويركب دراجة «هارلي ديفيدسون»، ويعزف على الغيتار. عملياً، يجمع الفيلم بين هذه العوامل كلها، لكنه يروي فعلياً قصة عميقة عن تجربة الحزن التي يختبرها عدد كبير من الناس. لا تزال «مارني» تتعامل مع وفاة زوجها «جو»، وتواجه «لوري» في الوقت نفسه تداعيات موت والدها. لن نشاهد ذلك الرجل العزيز على قلبَيهما إلا في الصور، لكنه الحاضر الغائب في حياتهما وهو الذي يُوجّه جزءاً كبيراً من خياراتهما. يعجّ السيناريو بتفاصيل دقيقة نادراً ما نجدها في أفلام هوليوود الرائجة، حتى أننا قد نشتبه أحياناً بأن هذه الجوانب تشتق من تجارب حقيقية. إنه توقّع صائب. استوحت الكاتبة والمخرجة لورين سكافاريا (من أعمالها فيلم Seeking a Friend for the End of the World (البحث عن صديق لنهاية العالم)) هذه القصة من تجربتها هي ووالدتها بعد وفاة والدها. يبدو أنها احتفظت بمذكرات مفصّلة عن تلك التجربة.

تظهر صورة أو ملاحظة تُعبّر عن مشاعر الحزن الكامنة كل بضع دقائق، فتتردد «مارني» مثلاً حين تضطر لملء خانة عن «حالتها الاجتماعية» في إحدى المعاملات، بما أن الخيارات أمامها تقتصر على كلمتَي «متزوجة» أو «عزباء». على صعيد آخر، تطغى أغنية «جو» المفضّلة على مقاطع الموسيقى التصويرية وتعلو ألحان من نوع الروك أند رول الذي كان شائعاً خلال الخمسينات حين تنغمس «مارني» في أحلام يقظة عن زوجها الراحل. كذلك، يخبرها معالجها النفسي في أحد المشاهد بأنها تنفق الأموال التي تركها لها «جو» لأنها تشعر بأن تلك المبالغ هي أشبه بجائزة ترضية بعد فقدانه، لكن تنكر «مارني» هذا الادعاء مباشرةً. وعندما تزور «مارني» عائلة «جو» في نيويورك وتتكلم عن مرور عام على وفاة زوجها، يصحّح الحاضرون كلامها ويخبرونها بأنه مات منذ سنتين. هذا ما يحصل حين يخسر الفرد شعوره بالزمن بعد فقدان شخص مقرّب منه. لا مفر من أن نتأثر عند مشاهدة هذا النوع من الأفكار العميقة على الشاشة بهذه الطريقة العفوية.

تحمل المشاهد التي تبدو مصطنعة من الناحية العاطفية في الأفلام الأخرى طابعاً دافئاً هذه المرة بفضل العواطف المشحونة التي تحملها «مارني» و»لوري» في داخلهما، مع أنهما لا تناقشان هذه المشاعر علناً. حين تمضي «مارني» وقتها مع «زيبر»، لا تعكس هذه المشاهد مجرّد لقاء مرح تم تأجيله كي لا ينتهي الفيلم خلال نصف ساعة، بل تتردد «مارني» في اتخاذ هذا القرار لأن «زيبر» يُذكّرها بـ»جو»، وهي لا تعرف إذا كانت تريد الوقوع في حب رجلٍ من هذا النوع مجدداً. يدرك «زيبر» هذا الواقع على ما يبدو، مع أنه لا يعرف جميع التفاصيل، ويتّضح ذلك في طريقة إصغائه إليها، فهو يتحلى بأعلى درجات الصبر والهدوء.

تظهر هذه الحقائق وسواها في السيناريو والأداء التمثيلي، لا سيما أداء ساراندون، فهي تتخبط في البداية بسبب اضطرار شخصيتها لاستعمال لكنة سكان نيويورك، لكنها تفهم أعماق الدور الذي تقدّمه، وصولاً إلى طريقة تعاملها مع الانتقادات الموجّهة ضدها، أو طريقة تعبيرها عن الدهشة والامتنان حين تشاهد لقطة من حلقة تجريبية تُحضّرها ابنتها لبرنامجها التلفزيوني وتدرك أنها مستوحاة من حياتهما. سرعان ما تفهم أن «لوري» حوّلت معاناتها إلى شكلٍ من الفنون وأعادت «جو» إلى الحياة عبر كتاباتها.

باختصار، نجحت سكافاريا في تقديم فيلم لطيف وذكي ومميز. تدور أحداثه في ظروف واقعية، وهو يستكشف مشاعر حقيقية قد يكون بعضها مزعجاً أو مخيفاً، لكن تتّسم هذه الأحاسيس دوماً بالصدق والتعاطف، مع نفحة من الفكاهة الناجحة. هذه اللمسة ليست خفيفة وعابرة، بل إنها سلسة وحساسة. سيتفاجأ عدد كبير من الناس بعمق هذا الفيلم وقدرته على التعبير عن حالتهم. هو يحمل رسائل كثيرة، رغم بساطته الظاهرية، ويُعبّر بكل صدق عن معنى تجاوز الأزمات مع مرور الوقت.



MISS 3