عندما نقول إن على الدولة أن تتحمّل مسؤولياتها فهذا لا يعني حصراً أن تمدّ يدها إلى خزينتها وتدفع ثمن إرتكابات غيرها من الأطراف وفي طليعتهم المصارف. في المقابل، ومهما كان تصنيف هذه الأزمة، أكانت حقيقةً «أزمة نظاميّة» أو مجرّد عملية سرقة منظّمة قامت بها عصابة إجراميّة، فالجدال في طبيعة الأزمة لا يعفي الدولة أو السلطة القائمة من مسؤوليتها في مراقبة عمل مصرفها المركزي وحاكميته وإدارته ولجانه المختلفة، ولا من مراقبة عمل قطاع حيوي وأساسي في الإقتصاد وهو المصارف، ولا يعفيها بالتالي من تحمّل تبعات السياسات الخاطئة والتقصير والهدر.
الدولة إن وُجدت لا تخفي عن شعبها وجود مشكلة حادّة على وشك الإنفجار وتطلب من وزير ماليتها قبل عام كامل من إنكشاف الأزمة أن ينفي تصاريحه ويعيد جمع ريش الحقيقة المنتوف لبناء تدعيمات للبونزي لكي يستمرّ أطول مدّة ممكنة في خدمة المنظومة.
الدولة إن وجدت لا تنتظر من مليون ونصف مودع تمّ حجز ودائعهم منذ تشرين الأول 2019 أن يرفعوا دعاوى إفراديّة أمام قضاء لا يريد أن يقوم بواجبه إلّا في ما ندَر.
فالأساس في تحمّل الدولة مسؤولياتها هو المبادرة إلى تحريك النيابات العامة المالية أو إنشاء محكمة ماليّة خاصّة من مهامها التحقيق والتدقيق والتنسيق مع الجهات الأجنبية واتخاذ صفة الإدعاء المباشر على المصارف وعلى إداراتها ومساهميها وعلى مصرف لبنان وحاكمه ومجلسه المركزي وعلى لجنة الرقابة على المصارف وكل من تعاقب على هذه المراكز والمسؤوليات.
الدولة إن وجدت لا تترك لجزء من القضاء حريّة التقاعس والتواطؤ والنوم في حضن المنظومة المالية - السياسية ومراعاة مصالحها على حساب حقوق المواطنين الشرفاء الذين تُركوا عالقين بين سندان البونزي ومطرقة المصارف وعدم مبالاة معظم القضاة.
الدولة إن وجدت فهي إستمراريّة. فالسلطة الحالية مسؤولة عن معالجة الوضع المالي والنقدي والإقتصادي وإن لم تكن مسؤولة مباشرة عن جميع السياسات والقرارات التي حوّلت البلد إلى فخ كبير لأبنائه وحقل لجمع الثروات لمجموعة من اللصوص والمرتكبين.
الدولة إن وجدت عليها مسؤولية وضع أفضل الخطط وليس أسوأها والأهم أن تعترف بخططها وتدافع عنها. فلو قامت الدولة بجمع الأفكار الجيدة من جميع المشاريع التي تم طرحها حتى الآن لكان لدينا خطّة وخارطة طريق وكنّا قد أنجزنا معظم الخطوات.
أمّا الدولة الشبح فتقوم بحشو خططها بالسموم والخداع ومن ثمّ تتنصّل من مسؤولياتها في إطار نفس لعبة تمرير الوقت وقتل المواطنين.
الدولة إن وجدت عليها أن تحاول باستمرار إيجاد الحلول، فإذا سقط اقتراح عادت بغيره، وإذا فشل هذا أيضاً عليها أن تفتح طاقة في الجدار لكي يدخل الضوء وتتبدد الخفافيش. وهذه «الطاقة» معروفة للجميع ويمكن أن تكون بداية لحلٍّ ما يبدأ بالمحاسبة وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
فعلى مؤسسات الدولة أن تبادر الى إلغاء السرية المصرفيّة بالكامل والتدقيق في جميع الحسابات المصرفيّة بهدف فصل الودائع المشروعة عن الأموال المشكوك في مصادرها ليبدأ من هنا الحلّ وإن بشكل تدريجي. فعملية «تكبير الحجر» كل مرّة نجحت حتى الآن في إفشال جميع المحاولات.
كما على الدولة إن وجدت أن تستفيد من تجارب الدول الأخرى ومن خبراتها. فكان بالإمكان التمثّل بأيسلندا من حيث سرعة المبادرة ووضوح الرؤية في تحميل المسؤوليات والحفاظ على ودائع المواطنين. أو الإستفادة من خبرات اليونان وقبرص وسويسرا والولايات المتحدة وبريطانيا في أخذ المبادرة ومنع الأزمات المصرفية من التحوّل إلى كوارث وطنيّة يصعب الخروج منها فتحتاج إلى عقود طويلة من المعالجات.
الدولة إن وجدت تقوم بواجبها وتفرض على الجميع القيام بواجباتهم. أمّا إذا كانت الدولة القائمة هي مجرّد شبح أو سراب فلتتوقّف عن تدبيج الخطط وصفّ الموازنات وفرض الضرائب على مواطنين أصبحوا سجناء ومختطفين في وطنهم.
(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي