مينكشين باي

السرّ وراء سيطرة الصين على الإنترنت

14 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

عندما أصبحت شبكة الإنترنت متاحة في كلّ أنحاء العالم، كان المعسكر الأكثر تفاؤلاً يأمل في أن تتمكن من تحطيم قدرة الأنظمة الاستبدادية على التحكم بالمعلومات. وفق هذه الفرضية، ستعجز الأنظمة الديكتاتورية عن كبح مسار ثورة المعلومات التي أطلقتها طبيعة الإنترنت اللامركزية.

لكن حمل القادة الصينيون رأياً مختلفاً. هم لم يطبقوا خطة شاملة في البداية، لكنهم طوّروا تكتيكات من نوع آخر على مر العقود. بدت مقاربة بكين لترويض ثورة المعلومات فريدة من نوعها، فهي ركّزت على التحكم بالقدرة على استعمال الإنترنت ولم تكتفِ بفرض رقابة على محتواها. أعطت السلطات الصينية الأولوية لتحديد هوية مستخدمي الشبكة، ما سمح لها برصد من يطرحون تهديدات محتملة، وتعقبهم، وترهيبهم، ومعاقبتهم.

تضع الدولة الصينية هذا المفهوم في خانة «السيطرة على ساحة المعركة»، وقد يكون أساس تكتيكات المراقبة المستعملة على نطاق واسع عبر شبكة الإنترنت ووسائل أخرى. بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني، الذي يعتبر قمع أي مخاطر تُهدد سلطته مسألة حياة أو موت، يُعتبر الفضاء السيبراني ساحة معركة جديدة. ولا يتكل هذا الحزب على التكنولوجيا للسيطرة عليه بكل بساطة، بل يستخدم التكنولوجيا أيضاً لتحديد مكان وزمان استعمال عدد إضافي من عناصر الشرطة على الخطوط الأمامية في خضم حربه للسيطرة على الرأي العام، بما في ذلك محطات القطارات، ومراكز التسوق، والفنادق، والجامعات.

للسيطرة على ساحة المعركة في الفضاء السيبراني، تتكل الحكومة على هيئتَين للمراقبة: اللجنة المركزية لشؤون الفضاء السيبراني التي تُعتبر جزءاً من الحزب الشيوعي الصيني، ووحدات الشرطة. تُحدد أجهزة المراقبة التابعة للحزب الحاكم المحتويات التي تستحق الحظر أو الغربلة، ثم تفرض الشرطة الرقابة عليها عبر تكتيكات مثل تركيب معدات مراقبة، وحظر الاتصالات المشبوهة، وإجراء التحقيقات، واعتقال المرتكبين.

بدأ الحزب الشيوعي الصيني يفرض سيطرته على الإنترنت في منتصف التسعينات، لكنه لم ينشئ «المجموعة القيادية المركزية للأمن السيبراني والمعلوماتية» قبل العام 2014: كُلّفت هذه الوكالة الوطنية المتكاملة بمسؤوليات على صلة بتنظيم القطاع ومراقبته. في غضون ذلك، فتحت السلطات المحلية مكاتب تابعة للجان الحزب الشيوعي الصيني.

تفتقر المنافذ المحلية للجنة شؤون الفضاء السيبراني إلى اليد العاملة والقدرات التكنولوجية اللازمة لتنفيذ عمليات مراقبة متطورة. لهذا السبب، تقضي مهامها الأساسية بفرض رقابة روتينية ونشر حملات التضليل. على سبيل المثال، ذكرت الوكالة السيبرانية في بلدية مدينة لونغنان التي تشمل أقل من 3 ملايين نسمة، أنها استعملت البيانات الكبرى والحوسبة السحابية حتى أواخر العقد الثاني من الألفية الثالثة لمراقبة الرأي العام عبر شبكة الإنترنت. وفي العام 2019، راقبت الوكالة 515 ألف مادة من المعلومات المتعلقة بمدينة لونغنان على الإنترنت، واعتُبِر 8 آلاف منها سلبياً. كذلك، تستعين الوكالات السيبرانية المحلية بمعلّقين على الإنترنت لإطلاق حملات إلكترونية للتلاعب بالرأي العام ونشر معلومات كاذبة.

على صعيد آخر، تتولى وحدات الشرطة السيبرانية تنفيذ الإجراءات وفرض الرقابة. في البداية، نُظّم عمل تلك الوحدات في مكاتب الأمن العام في أنحاء الصين في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة. ذكرت الشرطة السيبرانية في مدينة يانان مثلاً أن مهامها الأساسية تشمل «مراقبة المعلومات المسيئة والسيطرة عليها، وجمع التطورات الحاصلة على الإنترنت وتحليلها والإبلاغ عنها، وفرض الإجراءات التنظيمية على مقاهي الإنترنت، والتحقيق بالجرائم الإلكترونية والتعامل معها». تبقى وحدات الشرطة السيبرانية في مكاتب الأمن العام المحلية صغيرة نسبياً، مع أنها تقوم بهذا النوع من المهام.

تستعمل الشرطة السيبرانية تكتيكات عدة لتحديد هويات المنتهكين والمرتكبين المحتملين. تقضي إحدى المقاربات بتعقب عنوان بروتوكول الإنترنت الذي يرتبط بشبكة محلية موصولة بالإنترنت العام. إنها عملية سهلة لأن شركات الاتصالات المملوكة للدولة تضمن الوصول إلى الشبكة. لكن يستطيع المستخدمون الأكثر تطوراً تجنب هذا النوع من عمليات تحديد هوية المستخدم عبر تحويل حركتهم على الإنترنت إلى شبكة افتراضية خاصة. كذلك، تبرز الحاجة إلى تدابير أخرى لتحديد أصحاب الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يسمح للناس بنشر المحتويات من دون الكشف عن هويتهم. في شباط 2015، فرضت قواعد جديدة على جميع مستخدمي الإنترنت الكشف عن أسمائهم الحقيقية عند تسجيل الحسابات في غرف الدردشة، وتطبيق المراسلة الشائع WeChat، وخدمة المدونات الصغيرة Weibo، ووسائل أخرى في مواقع التواصل الاجتماعي.

تشرف الشرطة السيبرانية أيضاً على نقاط اتصال مثل مقاهي الإنترنت وشبكات الـ»واي فاي» العامة في الفنادق، ومراكز التسوق، والمطارات، وأماكن أخرى، لتحديد هوية المستخدمين خارج شبكاتهم المنزلية. تساعدها الإجراءات التنظيمية على تطبيق هذه العملية. في العام 2001، أمرت الحكومة مقاهي الإنترنت الخاصة بأن تحتفظ بمعلومات عن العملاء، بما في ذلك هوياتهم ونشاطاتهم على الإنترنت، طوال 60 يوماً. كذلك، يجب أن يحصل مشغّلو مقاهي الإنترنت على رخصة من مكتب الأمن العام المحلي والمكتب الثقافي (وكالة حكومية تنظّم قطاع الترفيه). تتطلب أحدث القواعد أن تُركّب مقاهي الإنترنت أجهزة لقراءة بطاقات الهوية كي يتمكن العملاء من استعمال الإنترنت بعد مسح بطاقاتهم التي تخزّن معلومات عنهم، بما في ذلك صورة ملوّنة للوجه.

فُرِضت تنظيمات مشابهة قبل ظهور الشرطة السيبرانية، لكن لم يكن تطبيقها صارماً. اليوم، تفرض الشرطة السيبرانية هذه القواعد بصرامة وتُدرّب «عناصر الأمن» في مقاهي الإنترنت. يُفترض أن يلتزم هؤلاء بالتنظيمات المعتمدة، حتى أنهم قد يتجسّسون على العملاء أحياناً. كذلك، تفرض بعض السلطات على مقاهي الإنترنت تركيب كاميرات لمراقبة العملاء.

في ما يخص مراقبة شبكات الـ «واي فاي» العامة، بدأت الشرطة السيبرانية المحلية، في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة، تفرض على مشغّليها تركيب «تدابير أمنية تقنية» غير محددة. بدأت جهود وطنية مشتركة تصبّ في هذه الخانة منذ العام 2014 على الأرجح. في تلك السنة، أطلقت شرطة مدينة ووهان برنامجاً ممتداً على 3 سنوات لتركيب «أنظمة إدارة الأمن» في كلّ شبكات الـ»واي فاي» العامة. وفي العام 2016، ركّب مكتب الأمن العام في ولاية يونان الصينية 560 نظاماً عاماً لمراقبة شبكات الـ «واي فاي». كذلك، تم تركيب آلاف الأنظمة المشابهة في منطقتَين من مقاطعة سيتشوان بين العامين 2017 و2018. في المتوسط، يكلّف جهاز مراقبة الـ»واي فاي» حوالى 306 دولارات، ما يعني أن هذا النوع من أنظمة المراقبة، بما في ذلك الصيانة بعد التركيب وتكاليف التشغيل، يتطلب موارد كبرى.

تولي الشرطة السيبرانية اهتماماً خاصاً بالمستخدمين الذين يدخلون في خانة «الأفراد الأساسيين»، أي الأسماء التي تضعها السلطات المحلية على اللائحة السوداء بسبب تورطها في نشاطات تطرح تهديداً على أمن النظام والسلامة العامة. يتداخل هؤلاء الأفراد على الأرجح مع المعارضين السياسيين، والعلماء الليبراليين، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وأعضاء المنظمات الدينية غير القانونية، وممارسي تمارين «فالون غونغ»، وأي حركات أخرى تعتبرها الدولة «طقوساً شريرة». كذلك، يقال إن الأفراد الأساسيين يشملون بعض الشخصيات المعروفة في الحكومة، ما يؤكد على هوس الحزب بمن يملكون عدداً كبيراً من المتابعين، بغض النظر عن انتمائهم السياسي.

يختلف عدد الأفراد الأساسيين على شبكة الإنترنت من منطقة إلى أخرى في الصين، ما يعني أن السلطات المحلية تضطر للقيام بهذه التصنيفات على نطاق واسع. في العام 2018، شملت مقاطعة هانغ يانغ 100 فرد أساسي تحت المراقبة. وزعمت الشرطة السيبرانية في منطقة أوروكين في منغوليا الداخلية، أنها كانت تراقب 25 منهم في العام 2015. كذلك، ذكرت مقاطعة يونهي في مدينة تشانغتشو أن الشرطة المحلية تواصلت مباشرةً مع 62 فرداً أساسياً في العام 2016. لكن رصدت سلطات عدة المزيد منهم. في العام 2018، شملت مقاطعة جيشان 1141 هدفاً تحت المراقبة، أي ما يساوي 0.3 في المئة من سكانها. وبين العامين 2011 و2014، سجّلت الشرطة السيبرانية في مقاطعة تانشينغ 3475 فرداً أساسياً وتحكمت بهم، أي ما يساوي 0.4 في المئة من سكانها.

تبقى التفاصيل العلنية التي تشير إلى طريقة مراقبة الصين للأفراد الأساسيين قليلة، لكن يُعتبر هذا التكتيك من أهم استراتيجيات المراقبة في الصين لأنه يسمح للسلطات بمتابعة تعقب الأفراد الأكثر ميلاً إلى إثارة المشكلات. في الحد الأدنى، يبدو أن الشرطة السيبرانية تملك ملفات خاصة حول الأفراد المستهدفين. وفق تقرير أصدره مكتب الأمن العام في مدينة نيجيانغ في شباط 2011، تلقّت وحدة الشرطة السيبرانية توجيهات لجمع المعلومات عن جميع أنواع الأفراد الأساسيين، وتكليف المسؤولين باستعمال «وسائل تقنية متنوعة» للتدقيق بهم، واستخدام قاعدة بيانات غير محددة في وحدات الشرطة الخاصة للتأكد من هوياتهم على شبكة الإنترنت. يشير التقرير أيضاً إلى حصول عمليات مراقبة في الوقت الحقيقي بفضل المعلومات التي يجمعها مزوّدو خدمة الإنترنت ومقاهي الإنترنت.

سمح هذا النظام من المراقبة الموزّعة للدولة الصينية بالسيطرة على ساحة المعركة في الفضاء السيبراني وتبديد التهديدات المطروحة على حُكم الحزب الشيوعي الصيني. وكما يحصل مع أشكال أخرى من القمع الوقائي، تسمح هذه التكتيات للدولة بمراقبة نشاطات خصوم النظام وتقييد حرية حركتهم.

تتكل دولة المراقبة على نقاط قوة الحزب الشيوعي الصيني على مستوى التنظيم والتعبئة. تتشكل إجراءات بيروقراطية جديدة ومتخصصة سريعاً لتنفيذ أجندة الدولة المركزية (نشأت في هذه الحالة وكالات إلكترونية وشرطة سيبرانية). قد تكون التكنولوجيا بالغة الأهمية في هذا المجال، لكن ثمة دور أساسي للمخبرين وتحقيقات الشرطة وأساليب الترهيب أيضاً. يكشف نجاح الصين في السيطرة على ساحة المعركة في الفضاء السيبراني قدرة الحزب الشيوعي الصيني على التكيّف مع المستجدات عند مواجهة أي تهديد جديد على سلطته. يجب ألا يستخف أحد إذاً بإصرار الحزب الحاكم على ترسيخ حُكمه أو تقوية القدرات التي تسمح له بتحقيق هذا الهدف.

MISS 3