ليزا فينيولي ونورين راجا

جولييت بينوش: أتعمّق في كل ما أفعله

15 آذار 2024

المصدر: VANITYFAIR

02 : 00

في Clouds of Sils Maria

لا تتكل الممثلة جولييت بينوش على منهجية معيّنة لاتخاذ قراراتها، بل إنها تصغي إلى حدسها ورغباتها والغموض الذي يطبع التواصل البشري. هي تفضّل أن تراهن على الفن بدل اتخاذ مسار مدروس. بدأت مسيرتها المهنية منذ 41 سنة، وهي تشمل أكثر من ثمانين فيلماً. يتجاوز تأثيرها حدود الزمن، وهي تنقل حساسيتها الفائقة إلى مختلف أعمالها التي تحمل توقيع مخرجين متنوعين، بدءاً من الياباني هيروكازو كوريدا وصولاً إلى الكندي ديفيد كرونينبيرغ. تتّضح هالتها القوية حين نعرف أنها الممثلة الوحيدة التي شاركت في أكبر ثلاثة مهرجانات سينمائية (كان، برلين، البندقية) إلى جانب جوليان مور.

بينوش في فيلم THE LOVERS ON THE BRIDGE



في مقابلة حديثة مع بينوش في باريس، تقول الممثلة المخضرمة: «أنا أحتاج إلى صوتي في هذه الأيام». تنشغل بينوش في هذه الفترة بوضع صوتها على الدبلجة الفرنسية لمسلسل The New Look (المظهر الجديد)، حيث تجسّد دور مصمّمة الأزياء كوكو شانيل. هي تقدّم هذا الدور باللغة الإنكليزية إلى جانب الممثل الأسترالي بن مينديلسون الذي يجسّد شخصية كريستيان ديور. يعرض المسلسل صورة متقاطعة بين شخصيتَين عبقريتَين في عالم الموضة، خلال زمن الاحتلال في باريس. تعليقاً على هذا المشروع، تقول بينوش: «لقد قرأتُ كتباً كثيرة استعداداً لهذا الدور. تحمل بعض المؤلفات وجهات نظر حاقدة، بينما تتطرق كتب أخرى إلى حياتها. كل ما كان يهمّني هو اكتشاف حقيقتها وقراءة شهادات من عرفوها على أرض الواقع».

ترتسم ابتسامة مصحوبة بالألم على وجهها حين تتذكر والدها الذي توفي في العام 2019. كان هذا الأخير نحاتاً ومخرجاً وممثلاً صامتاً. كان يعيش في المغرب، وكرّس حياته للمسرح، ولطالما كان مفتوناً بالحرية. هي تَصِفه بكلمة «فوضوي» لكنها تتراجع لاحقاً لأنها لا تحب حصره بصفة معيّنة. كانت تلحق به في صغرها خلال جولاته مع شقيقتها الكبرى في جنوب فرنسا، وقد اصطحبهما والدهما في إحدى السنوات إلى تشارلي شابلن في فترة عيد الميلاد.

لا مفر من الوقوع تحت سحر جولييت بينوش حين تتكلم عن مهنتها. هي تواظب على قراءة المؤلفات الروحية، وتقارن التصوير بـ»الصلاة»، وتعتبر الفنانين «جرّاحي قلوب». تحب بينوش أن تُحضّر أدوارها على الطريقة الأميركية، ما يعني أن تصطدم بالواقع دوماً. لتقديم دور رسامة تفتقر إلى مكان إقامة دائم في فيلم The Lovers on the Bridge (عشاق على الجسر)، في العام 1991، عاشت بينوش في الشارع لبضعة أشهر وأمضت عدداً من الليالي في أحد منازل منطقة «نانتير» الفرنسية قبل أن تعود إلى العاصمة.



مع أبنائها



يسهل أن ينجذب الناس إلى كلام بينوش في أي محادثة عادية. هي تروي مثلاً أنها قررت الذهاب في عطلة حديثاً لتمضية بعض الوقت مع ابنتها، لكنها لا تعرف إذا كانت العطلة تفيدها. هي تعترف بأن البقاء في المنزل هو أكثر ما يتعبها لأن روتين الحياة اليومية يخنقها. في لحظة أخرى، تتطرق بينوش إلى عشقها للطعام وتُخرِج دفتراً كبيراً فيه وصفات متنوعة وتقول: «أنا أتعمق في كل ما أفعله. حين أطبخ، أغوص في عالم الطبخ بالكامل. وحين أتسوق، أركّز على التسوق دون سواه».

تعليقاً على العوامل التي تُرهقها، تضيف بينوش: «أكثر ما يتعبني هو التوقف عن العطاء. أنا أنزعج من الممثلين البخلاء في عملهم. هم لا يفهمون أن الطاقة بين الممثلين يجب أن تكون تلقائية ومتبادلة». هي تعاملت مثلاً مع مخرج لم يكفّ عن قطع تركيزها في كل لقطة بعبارة «هل لديك أي سؤال»؟ لم تجرؤ بينوش على الاعتراض لفترة طويلة خوفاً من إزعاج الآخرين، أو إثارة غضبهم، أو فقدان تقديرهم. من المعروف أن عالم السينما لا يحبذ النساء المتمردات. عاشت بينوش تجربة سيئة مع المخرج الفرنسي كلود بيري، في نهاية التسعينات. خلال عشاء في مطعم السمك الشهير «لودوك»، اقترح عليها مخرج فيلم So Long, Stooge (وداعاً يا ستوج) تجسيد دور «لوسي أوبراك» في فيلم جديد. لكنها كانت قد اتفقت على المشاركة في فيلم The English Patient (المريض الإنكليزي) للمخرج أنتوني مينغيلا، فقال لها بيري: «لا أحد يعرف هذا الشخص». لكنها أصرّت على موقفها.

بعد مرور ثمانية أشهر، بدأ التصوير أخيراً. لكن عادت لحظات التوتر مجدداً. كانت بينوش تتحقق من واقعية المشاهد الواردة في السيناريو مع لوسي أوبراك، بينما أراد كلود بيري تجميل القصة لإعطائها طابعاً رومانسياً. بعد أسبوعَين، ثار المخرج غضباً وقرر الاستغناء عن الممثلة واشتكى منها لقناة «تي أف 1» التي كانت تموّل الفيلم. كانت بينوش محظوظة جداً لأن فوزها بجائزة «أوسكار» عن فيلم The English Patient حصّنها من تداعيات تلك التجربة. هي تستطيع اليوم أن تشكك بأسماء كبيرة مثل مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرغ بسبب ترددهما في تقديم شخصيات نسائية قوية. تُراجع بينوش السيناريو أحياناً حفاظاً على «مصداقيتها الفائقة» التي تكلمت عنها كريستين ستيوارت، شريكتها في فيلم Clouds of Sils Maria (غيوم سيل ماريا). تقول عنها ستيوارت: «هي تتمتع بقدرة هائلة على تحفيز الممثلين الآخرين واستخراج أشياء لا يعرفون بوجودها».

تعليقاً على الهالة التي تتمتع بها في مواقع التصوير ونزعة المحيطين بها إلى الإصغاء إليها تلقائياً حين تتكلم، تقول بينوش: «في أي موقع تصوير، يسهل أن نشعر بوجود شكل من التسلسل الهرمي. أنا أحب الإصغاء المتبادل والعمل المتواصل. أفضل الممثلين هم الذين يجيدون الإصغاء إلى الآخرين وملاحظة ما يدور في داخلهم».

في هذا السياق، يقول المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس: «جولييت تحارب الروتين على جميع المستويات. هي ليست مجرّد ممثلة، بل إنها تعيش أدوارها وتستسلم لها بالكامل». تفضّل بينوش التشديد على أهمية الرغبات التي تنتابها بدل التكلم عن مفهوم التضحية بالذات، فتقول: «يجب أن نرسم حياتنا. هذا هو عملنا الحقيقي بدل أن ننتظر من الحياة أن ترسم معالمنا».

تكثر الشائعات المتداولة عن حياتها، لذا حان الوقت للتحقق منها. هي تنفي الأخبار المرتبطة بمحاولة بيل كلينتون التقرب منها، وتعترف بأنها ذهبت إلى البيت الأبيض حين كانت تقدّم شخصية «آن كارسون» في أحد مسارح واشنطن. هل حاول الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران التودد إليها؟ يبدو أنه اقترح عليها أن ترافقه إلى تشيكوسلوفاكيا في طائرة خاصة، لكنها رفضت الدعوة. هي تذكر كتابDans l›ombre des Présidents: Au coeur du pouvoir : les secrétaires généraux de l'Élysée (في ظل الرؤساء: في قلب السلطة: الأمناء العامون للإليزيه) الذي صدر في العام 2016، حيث يعترف الرئيس السابق بأن بينوش هي «المرأة المثالية» بنظره، لكنها تتردد في متابعة الكلام وترفض بكل وضوح التطرق إلى شؤونها الخاصة، فتبتسم وتقول: «هذه حياتي الخاصة... سأحرمكم من الاطلاع عليها!».

أنجبت بينوش ولدَين، وهما يعشقان السينما أيضاً: ابنها البكر رافاييل من الغواص أندريه هالي، وابنتها هانا من المخرج الفرنسي بونوا ماجيميل. التقت بينوش بهذا الأخير في العام 1999، أثناء تصوير فيلمThe Children of the Century (أبناء القرن) الذي يروي قصة الحب القوية والمدمّرة بين جورج ساند وألفريد دو موسيه. بعد عقدَين من الزمن ومرور سنوات من دون أن يجمعهما أي لقاء، عادا والتقيا في فيلمThe Taste of Things (طعم الأشياء). سرعان ما امتزج الخيال بالواقع: كانا يجسّدان على الشاشة دور شخصَين يبحثان عن متعة الحياة في بلدة فرنسية، خلال القرن العشرين. هو كان رجلاً برجوازياً يعشق فن الطهي، وهي كانت طاهيته وعشيقته المتفانية. ما كانت هاتان الشخصيتان تستطيعان التعبير عن مشاعرهما بالكلمات، لذا أصبح الطعام أداة للتعبير عن أحاسيسهما.

كان التمثيل في ذلك الفيلم كفيلاً بإحياء المشاعر الدفينة. تعليقاً على تلك التجربة، تقول بينوش: «شعرتُ بالتوتر حين فكرتُ بأنني سألتقي به مجدداً، لكن سمح لنا هذا الفيلم بالتعبير عن مشاعرنا وإعادة إحياء لحظات الصمت والأحاسيس المكبوتة التي تراكمت مع مرور الوقت». خلال العرض الرسمي في مهرجان «كان» الأخير، حيث نال الفيلم جائزة عن فئة أفضل إخراج، انفجر بونوا ماجيميل بالبكاء حين عُرِض مشهد موت شخصيتها على الشاشة. تقول بينوش: «لم تدمع عيناه، بل أجهش بالبكاء فعلاً. انزعجتُ من الموقف، لكني ضحكتُ من كل قلبي أيضاً». هي لا تكف عن تذكيره بتلك الحادثة منذ ذلك الحين لإغاظته. لكنها تعترف بانزعاجها لأن هذا الفيلم، الذي حصد النجاح في الخارج، لم يلقَ الأصداء نفسها في فرنسا: «كانت بعض الانتقادات جارحة فعلاً. أنا حزينة على المخرج تران آنه هونغ الذي أراد أن يوجّه رسالة حب إلى الثقافة الفرنسية والمرأة عموماً عبر هذا المشروع».

تعتبر بينوش الجدل المرتبط باختيار ذلك الفيلم بدل Anatomy of a Fall (تشريح السقوط) لتمثيل فرنسا في حفل جوائز الأوسكار سخيفاً وغير منطقي: «كان يمكن أن نفرح بعرض فيلمَين فرنسيَين بهذا المستوى. أخذ فيلم جوستين ترييه المكانة التي يستحقها أيضاً». تتابع بينوش التماشي مع متطلبات عملها، لكنها تعتبر موسم الجوائز أشبه بسيرك كبير: «أصبحت التحديات المالية هائلة وتحوّل هذا العالم إلى غابة حقيقية». لمواجهة هذا الوضع الشائك، تقول بينوش مازحة إنها تكتفي بارتداء ثوبها والمضي قدماً. رداً على سؤال حول اعتبار علاقتها مع وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنكليزية أكثر بساطة من غيرها، تُراوغ بينوش في جوابها وتستعمل أسلوباً مضحكاً وارتجالياً وتقول: «لم أعد أهتم بهذا الموضوع اليوم. سأموت قريباً في مطلق الأحوال». لكنها مخطئة في قولها لأن جولييت بينوش ستبقى خالدة في ذاكرة محبيها.

MISS 3