جاد حداد

The Black Phone... بين رعب وتشويق

16 آذار 2024

02 : 01

يروي فيلم The Black Phone (الهاتف الأسود) حكاية مشوّقة عن قاتل أطفال يخطف فتياناً مراهقين في وضح النهار، فيختفون عن الأنظار بالكامل. الفيلم مقتبس من قصة قصيرة تحمل العنوان نفسه للكاتب جو هيل، ابن ستيفن كينغ. عندما يصبح الفتى «فيني» (مايسون تامز) أسيراً لديه ويتم احتجازه في قبو عازل للصوت، يبدأ بتلقي مكالمات هاتفية من ضحايا الخاطف السابقين عبر خط أرضي منفصل عن الشبكة.

يستعمل صانعو العمل ألواناً متناغمة بشكل عام، لكن يتلاشى تناسقها أحياناً بسبب لون الدم القوي وأضواء سيارات الشرطة، ما يجعل تلك اللحظات أكثر رعباً. تطغى ألوان الصدأ والدم على جدران القبو الذي يقبع فيه الفتى، فتشكّل رمزاً واضحاً للعنف. كذلك، تُقاطع ألحان خافتة الموسيقى التصويرية الحيوية والمستوحاة من حقبة السبعينات في لحظات معينة، فتخترق ضلوع المشاهدين وسَمَعهم ويشعرون أحياناً بأنهم يسمعون ذلك الصوت المريب من قبو الخاطف الواقع تحت الأرض.

لا يعكس هذا التداخل بين الهدوء والصخب ومظاهر العنف الكامنة تحت سطح الأرض أسلوباً مؤثراً فحسب، بل يُعبّر أيضاً عن جوهر الموضوع الذي يتطرق إليه الفيلم. يتعامل «فيني» الخجول وشقيقته الشجاعة «غوين» (مادلين ماكغرو) مع عدد من المتنمرين العدائيين في المدرسة، فيقصدان منزلهما حيث يُهمِل والدهما المدمن على الكحول تربيتهما. سرعان ما تصبح عبارة «سأعتني بأبي» نمطاً ثابتاً في الحوارات التي يعرضها الفيلم في مختلف مراحله، لا سيما حين يكون «فيني» في طريقه إلى المنزل بينما تبقى شقيقته مع أحد أصدقائها. يعتني الإبن بوالده ويربّي الشقيقان بعضهما البعض ويتبادلان الحماية من المتنمرين، بينما يبقى دور المسؤولين في المدرسة غائباً رغم زيادة الصراعات بين المراهقين. حتى أن «غوين» التي تتمتع ببصيرة ثاقبة هي التي تُوجّه تحقيق الشرطة، بينما يتواصل الضحايا السابقون مع «فيني» عندما يصبح في قبضة القاتل. يبدو أن هذا الجانب المرتبط بالدعم المتبادل بين الأولاد في ظل غياب أي شخصيات راشدة يمكن الاتكال عليها هو الذي يجعل الفيلم أكثر من مجرّد قصة بسيطة.

يقدّم المخرج سكوت ديريكسون والكاتب روبرت كارغيل قصة لافتة ومتعددة الطبقات ترتكز على الاستعانة بعناصر الرعب ودعمها بنقاشات حذرة حول مظاهر سوء المعاملة، والصدمات النفسية، والروابط بين الشباب. يتّسم الخاطف الذي يجسّد دوره إيثان هوك بشخصية متناقضة، فهو يتظاهر بالسعادة، ويشبه بأدائه حركات الشخصيات التي نشاهدها في الرسوم المتحركة، ويستعمل صوتاً عالي النبرة. إنه أداء طفولي ومريب، وهو يُستعمَل على الأرجح للدلالة على سلوك الانحدار العمري الذي ينجم عن صدمات نفسية معيّنة، فيتصرف المجرم بطريقة اعتاد عليها في مراحل سابقة من حياته. تتزامن هذه التصرفات مع البذاءة التي تطبع بعض الراشدين والنضج الذي يستعمله الخاطف للتكلم مع الأولاد. لكن تبقى الصفات الساذجة والمضحكة في شخصيته عابرة، فيصبح «فيني» تحت رحمة شخصية مختلفة بالكامل ويواجه رجلاً عدائياً وعنيفاً ذات صوت عميق وأجش.

يستعرض هوك مهاراته التمثيلية وقدرته على تقديم أدوار متنوعة في هذه اللحظات بالذات، فهو يجسّد جوانبه الشريرة بأسلوب متقلّب وغير متوقع، ويستعمل خبرته الواسعة للتوفيق بين مزايا الشباب المفعمين بالحيوية والانحراف الذي تسلل إلى أعماقه. يغيّر هوك أسلوبه التمثيلي بشكلٍ متكرر، ويضع قناعاً يغطّي الجزء السفلي من وجهه في معظم مشاهد الفيلم، لكنه يتّكل في تمثيله على لغة جسده والملامح العاطفية في عينيه. ربما تردد هوك في تقديم شخصية شريرة من هذا النوع، لكنه ينجح في هذا الرهان ويستفيد من أدائه الدرامي المؤثر الذي اشتهر به على مر مسيرته لتقديم هذا الدور العدائي بأفضل طريقة ممكنة.

قد يكون حضور هوك طاغياً على الشاشة، لكن يبقى أداء المراهقين أهم عامل مؤثر في هذه القصة. من الممتع أن نشاهد السلاسة التي يتمتع فيها مايسون تامز ومادلين ماكغرو وقدرتهما على التعبير عن مجموعة واسعة من العواطف. تتسلل مظاهر الخوف، والغضب، واليأس، والسخط، إلى لحظات السعادة التي يعيشها المراهقون والمواقف الكوميدية التي يمرون بها بأسلوب تلقائي وسلس. كذلك، تحمل الحوارات طابعاً عفوياً، وهي تعكس تركيز الفيلم على شخصيات المراهقين الشباب.

يسلّط صانعو العمل الضوء على تامز وماكغرو في لحظات كثيرة، وهما يستغلان هذه المشاهد للتعبير عن أعلى درجات العواطف. لكن يقع جزء من أكثر اللقطات تأثيراً وقوة خلال لحظات تخلو من الحوارات، فيبرعان في تجسيد رابط الأخوة القوي بينهما رغم كل ما يواجهانه من عدائية وسوء معاملة.

في النهاية، يعرض الفيلم قصة عن تبادل الدعم وقوة التحمّل، لكنه يشبه أيضاً القصص الخارقة للطبيعة عن القتلة المتسلسلين. يرتكز العمل على أجواء خانقة وأداء عاطفي مؤثر من معظم الممثلين، فيُركّز على مزاياه الأساسية ويسلّط الضوء على الجوانب التي تُميّزه عن غيره لتحقيق غايته. تبقى مشاهد العنف ثانوية في هذه القصة، إذ يصبّ التركيز في المقام الأول على تطوير الشخصيات، ومع ذلك لا يهمل الفيلم جانب التشويق في أي لحظة. سيبقى المشاهدون على أعصابهم حتى النهاية بسبب اهتمامهم بمصير «فيني» وقوة التشويق الذي يقدّمه صانعو العمل ببراعة فائقة.

MISS 3