إيمي ماكينون

خداع GPS في مناطق الحرب يُهدّد الطيران المدني

25 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

وفق معطيات هيئات الطيران الدولية والخبراء، تعرّضت رحلات الطائرات التجارية في الشرق الأوسط وشمال أوروبا لسلسلة من الحوادث التي تهدف إلى خداع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ما أدى إلى تغيير مسار أنظمة الملاحة على متن الطائرات وطرح مخاطر متزايدة على السفر جواً في أنحاء العالم. وقعت أولى الحوادث التي تم الإبلاغ عنها في مساحة من المجال الجوي العراقي، بالقرب من حدود البلد مع إيران، وهي منطقة تستعملها الرحلات التي تتنقل بين أوروبا ودول الخليج. ذكر طيّار في طائرة نفاثة خاصة برجال الأعمال كانت متوجّهة إلى دبي أن الطائرة كادت تدخل في المجال الجوي الإيراني من دون أخذ موافقة مسبقة بسبب خسارتها لنظام ملاحتها.

يُعتبر التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي ظاهرة شائعة نسبياً، لا سيما في محيط مناطق الحرب والمواقع العسكرية الحساسة، حيث تُستعمل هذه الممارسة لتشتيت الضربات المحتملة بالطائرات المسيّرة أو الصواريخ. يبقى الطيارون متأهبين للتعامل مع هذا النوع من الحوادث ويمكنهم أن يستعينوا بأجهزة أخرى للملاحة على متن الطائرة.

لكن خلال حوادث خداع الأنظمة، تنطلق إشارات مزيّفة تجعل المعدات الإلكترونية في الطائرة تحتسب مواقع غير صحيحة وتطرح توجيهات خاطئة، فتخدع جهاز الاستقبال في نظام تحديد المواقع العالمي على متن الطائرة وتوهمه بأنه في مكان مختلف عن موقعه الحقيقي.

يعتبر الخبراء هذا النوع من الخداع أخطر من التشويش العادي، فقد لا يدرك الطيارون في البداية حقيقة ما يحصل، وقد تجتاح الإشارات الخاطئة النظام المرجعي القصوري في الطائرة.

شهدت دول في شمال أوروبا سلسلة من الحوادث التخريبية التي استهدفت إشارات نظام تحديد المواقع العالمي منذ بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في العام 2022، فزادت التقارير المرتبطة بحوادث خداع الأنظمة بدءاً من أواخر كانون الأول في السنة الماضية.

يستعمل الموقع الإلكتروني GPSJam.org بيانات الطيران العلنية لرصد مناطق التشويش على أنظمة تحديد المواقع حول العالم، وقد لاحظ زيادة في هذه العمليات التخريبية في أنحاء دول البلطيق وشمال أوروبا بدءاً من 25 كانون الأول.

وكما يحصل في الشرق الأوسط، يبدو أن التشويش على إشارات أنظمة تحديد المواقع العالمية في أوروبا يتسلل من مناطق الحرب المجاورة. تعليقاً على الموضوع، قال رئيس الاستخبارات العسكرية الإستونية العقيد أنتس كيفيسيلغ خلال مقابلة مع صحيفة «فورين بوليسي» الأسبوع الماضي: «ترتبط معظم الحالات بأمن القواعد العسكرية في روسيا». واجهت روسيا اعتداءات بالطائرات المسيرة من أوكرانيا منذ بدء الحرب، بما في ذلك هجمات ضد موسكو.

بشكل عام، تُعتبر القوات المسلّحة الروسية أقل براعة من القوات الغربية في المجال التكنولوجي، لكن يذكر الخبراء والمسؤولون الاستخباراتيون أن موسكو تُحقق نتائج تفوق قدراتها في الحروب الإلكترونية. في مقابلة مع موقع «بلومبرغ»، ذكر قائد قوات الدفاع الإستونية الجنرال مارتن هيريم أن روسيا قد تختبر قدرتها على التشويش استباقاً لأي حرب مستقبلية مع حلف «الناتو».

كذلك، اعترف متحدث باسم وكالة سلامة الطيران الأوروبّية بزيادة التقارير المرتبطة بحوادث خداع الأنظمة في محيط منطقة بحر البلطيق بدءاً من كانون الأول، لكنّه ذكر أن الوكالة لا تملك أي أدلة حول مسؤولية حكومة أجنبية عن تلك العمليات التخريبية، فقال: «نحن لا نملك أي دليل على تورط دولة معيّنة، ولا شيء يثبت استهداف الطيران المدني».

تملك الحكومة الأميركية نظام تحديد المواقع العالمي، وهو يشكّل ركيزة أساسية لعدد كبير من أنظمة الملاحة، والاتصالات، والمعاملات المالية حول العالم. يمكن استعمال إشارات الراديو التي تبثها شبكة من الأقمار الاصطناعية الخاصة بتحديد المواقع العالمية لإطلاق عمليات ملاحة دقيقة، لكنها تبقى ضعيفة ويسهل التغلب عليها. تعترف الحكومة الأميركية بهذه المشكلة منذ فترة طويلة.

حين أصبح استعمال نظام تحديد المواقع العالمي أكثر شيوعاً في قطاع النقل، حذر تقرير أصدرته وزارة النقل الأميركية في العام 2001 من احتمال أن يصبح ذلك النظام «هدفاً مغرياً قد يستغله الأفراد أو الجماعات أو الدول المعادية للولايات المتحدة»، واعترف بمخاطر التشويش والخداع في هذا القطاع. في كانون الأول 2021، اعتبر واحد من كبار مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن في مجال الاستجابة للأزمات، نظام تحديد المواقع العالمي، «نقطة فشل» في البنية التحتية المحلية.

تقول دانا غوارد، رئيسة «مؤسسة الملاحة والتوقيت المرن» (منظمة غير ربحية تدعو إلى تحسين أمن أنظمة تحديد المواقع العالمية): «أصبح هذا التهديد الخطر معروفاً، لكن لا يعترف به المعنيون رسميّاً حتّى الآن، ولا يتخذ أحد خطوات جدّية لمعالجة الوضع».

كانت تقنية الخداع حكراً على المهندسين الذين يتمتعون بمهارات فائقة في الماضي، لكنها بدأت تنتشر على نطاق أوسع اليوم.

طوّر تود هامفريز، أستاذ في هندسة الطيران في جامعة تكساس، أوستن، أول نظام خداع علني في العالم حين كان طالب دكتوراه في جامعة «كورنيل» في العام 2008، ثم استعمل ذلك الجهاز لاحقاً لتغيير مسار يخت خاص قيمته 80 مليون دولار خلال تجربة مدروسة في البحر الأبيض المتوسط.

يوضح هامفريز: «كان الجهاز الذي ابتكرتُه في العام 2008 معقداً جداً. كنتُ في المرحلة الأخيرة من نيل شهادة الدكتوراه، وكنتُ خبيراً في أنظمة تحديد المواقع العالمية وفي أجهزة الراديو العاملة بالبرمجيات، ومع ذلك احتجتُ إلى سنة كاملة لبناء الجهاز الجديد. في هذه المرحلة، أصبحت تقنية الخداع شائعة لدرجة أن يتمكن أي شخص يملك ألف دولار ويستطيع اختراق الشبكة من شراء التقنية المناسبة وتنزيل برنامج معيّن لخداع الأنظمة بكل بساطة».

كذلك، أصبحت أجهزة التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي أكثر شيوعاً، وهي قادرة على تعطيل السفر أيضاً. من المعروف أن السائقين على طريق «نيو جيرسي تورنبايك» يستعملون أجهزة غير قانونية للتشويش على أنظمة تحديد المواقع العالمية لمنع أرباب عملهم من تعقب مكانهم، وهم يعطّلون بهذه الطريقة الإشارات في مطار «نيوارك ليبرتي» الدولي المجاور.

في العام 2022، أدى التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي في منطقة «مطار دالاس فورت وورث الدولي» إلى تأخير الرحلات وإغلاق مدرج في المطار. ورغم الجهود المكثفة في هذا المجال، عجزت إدارة الطيران الفدرالية عن تحديد سبب التشويش. ذكر متحدث باسم الوكالة أنهم لم يجدوا أي دليل على حصول تعطيل متعمّد، مؤكداً استمرار البحث عن مصدر التشويش.

في أواخر كانون الثاني، عقدت وكالة سلامة الطيران الأوروبّية شراكة مع اتحاد النقل الجوي الدولي لاستضافة ورشة عمل مشتركة ومناقشة الطرق التي تسمح بمحاربة عمليات الخداع والتشويش على إشارات الملاحة.

في بيان صدر بعد اجتماع مغلق، قال المدير التنفيذي لوكالة سلامة الطيران الأوروبّية لوك تيتغات: «تقدّم الأنظمة العالمية للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية منافع هائلة في مجال الطيران، فهي تزيد سلامة العمليات في المجال الجوي المزدحم والمشترك. لكننا لاحظنا زيادة كبيرة في الاعتداءات التي تستهدف تلك الأنظمة، ما يطرح خطراً على السلامة العامة. تسعى وكالة سلامة الطيران الأوروبّية إلى معالجة المخاطر التي تطرحها هذه التقنيات الجديدة. يجب أن نحرص فوراً على تمكين الطيارين وأفراد طاقم الطائرات من رصد المخاطر والردّ عليها والهبوط بكل أمان».

حتى الآن، يظن الخبراء أن مخاطر خداع نظام تحديد المواقع العالمي التي تُمهّد لتحطّم الطائرات لا تزال متدنية نسبياً. أصبحت حملات التوعية المرتبطة بهذه المشكلة شائعة وسط الطيارين والخطوط الجوية، ما يسمح لهم باتخاذ إجراءات تصحيحية مثل تعطيل نظام تحديد المواقع العالمي بالكامل عند المرور في نقاط ساخنة والاتكال على تقنيات ملاحة أخرى.

تكون أنظمة الطائرات مُصمّمة للعودة إلى وضعها الآمن في معظم الظروف، ويجب أن يجتمع خليط من الأحداث الشائكة كي تتحطم أي طائرة بسبب خسارة إشارات نظام تحديد المواقع العالمي أو التشويش عليها. لكن تبرز مخاطر أخرى قد تترافق مع تداعيات جيوسياسية كبرى. توضح غوارد: «وفق واحد من أبرز السيناريوات الواقعية، قد تتعرض الطائرة للخداع وتُحلّق فوق إيران عن طريق الخطأ، فيتم إسقاطها بسبب وجودها في المجال الجوي الإيراني».

حتى الآن، يظن هامفريز أن مجال الطيران يختبر الآثار الثانوية لخداع نظام تحديد المواقع العالمي والتشويش عليه في محيط مناطق الحرب، وهي عمليات تهدف في المقام الأول إلى صدّ الطائرات المسيّرة والذخائر: «كل ما نشاهده حتى الآن هو شكل من الأضرار الجانبية. لكن إذا أصبحت الطائرات هدفاً بحد ذاته مستقبلاً لأن روسيا أو إيران تريدان نشر الفوضى في أنظمة النقل الجوي في أوروبا، قد تتطور هذه العملية بطريقة قادرة على إيذاء الاقتصاد. هذا الجانب هو أكثر ما يقلقني في شأن اتكالنا المفرط على نظام تحديد المواقع العالمي».

MISS 3