«عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو وأحرسهم من هواة الرّثاء...
أقول لهم، تصبحون على وطن، من سحابٍ ومن شجر، من سراب وماء
أعلّق أسماءكم أين شئتم فناموا قليلاً... ناموا على سلم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم، وانقلاب الكتاب على الأنبياء
وكونوا نشيد الذي لا نشيد له عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء
تصبحون على وطنٍ... حمّلوه على فرس راكضة
وأهمس... يا أصدقائي لن تصبحوا مثلنا، حبل مشنقةٍ غامضة»
محمود درويش
في إحدى مسرحيات زياد الرحباني، وكانت تعرض في عزّ الفوضى خلال أحد فصول حربنا الأهلية، ما زلت أحفظ هذا المقطع المدهش بشفافيته وعمقه. في المشهد رجل يعرّف عن نفسه باسم «أخو الشهيد»، فكان «يُشبّح» على الجميع قائلاً إنّه له الحق لكونه «أخو الشهيد»، وبعد أن استشهد أخوه لم يعد يعمل ليكسب معاشه، بل صار يعيش على حساب آخرين ليسوا إخوة شهيد مثله. بالمحصّلة، ضاق صدر أحد «المُشبَح» عليهم بشكل متكرر، فأطلق النار على أخي الشهيد وقتله... الغريب أن لا أحد ممن حضروا في المشهد اعترض على مقتل أخي الشهيد، لا بل أن حياتهم تحرّرت من الإبتزاز المعنوي والمادي اليومي. ومع أن معظمنا في تلك الأيام كنّا نعيش على ذكرى الشهداء، ومن منّا لم يكن له أخ أو أب أو أم أو إبن أو صديق أو قريب من قافلة الشهداء، بغض النظر عن سبب الإستشهاد أو الفئة التي يعنيها هذا الإستشهاد، لكنّ الفكرة لمعت يومها في رأسي عن مدى تأثير هذه الظاهرة على حياتنا، أكان الأمر فرديّاً أو جماعيّاً.
فمن اليوم الأول لحدث الإستشهاد، كان يحسب حساب التشييع وعدد المسلحين الذين سيرافقون الشهيد إلى «دار الخلود» مع الأبرار والصديقين، بغض النظر عن أي فئة انتمى إليها أو استشهد على ذمتها. ومع تعطيل حركة السير والأشغال المتعثّرة أصلًا خلال التشييع، يأتي حساب الرصاص المهدور في الجوّ، مع احتمال أن «تطوش» رصاصة وتقتل عابر سبيل أو تصيبه بعاهة دائمة، فيما هو يسعى وراء ما تبقى من رزق نادر، سببه الأساسي هو الذي أدى إلى استشهاد الشهيد.
الهمّ الثاني هو في الشوارع القريبة أو البعيدة، عندما تردّ السماء الرصاص الموجه إليها ليتساقط على طفل يلعب في مدرسة بعيدة فتثكل العائلة وتندب حظّها لأنها ما زالت تعيش في مكان يُقتل فيه أضعاف أعداد الشهداء خلال تشييعهم، من قبل زملاء لهم غير مستشهدين، أو غير مستعدين للإستشهاد. المحزن هو أنّ القتلى الذين سقطوا على حساب الشهيد لا يحظون بصفة الإستشهاد، كما أنّ القاتل يبقى إسمه الرصاص الطائش، أي أن المجرم يبقى طليقاً فلا تطاله عدالة، وتبقى صفته، رغم كونه قاتلاً، «أخو الشهيد» أو «رفيق الشهيد». وقد تسقط رصاصة على زجاج سيارة ثمنه يعادل مدخول شهر لصاحبها، أو كلفة دواء دائم أو أجرة بيت، فيحتار صاحبها بين أولوياته، ويشتم كلّ من كان لقبه «أخو الشهيد».
ومع ذلك، فإن الشهيد بريء من أخوته، كبراءة الذئب من دم يوسف، فهو مات ولا يعلم إلى أين مآله، وربما لم يخطر بباله أن إخوته سيطلقون الرصاص على بائع خضرة وهو يرشّ الماء على الخسّ والملفوف علّه يرزق بخبزه كفاف يومه، أو على أستاذ يسرع الخطى إلى حصته وهو ما زال مؤمناً أن تعليم تلميذ سيحميه من أن يموت شهيداً أو أن يكون مشروع شهيد أو «أخو شهيد». قناعتي هي أنه لو علم الشهيد بما يحدث لندم حتى على ساعة استشهاده، لكثرة اللعنات التي ستسقط عليه من ضحايا إخوته! بينما إخوته أحياء يرزقون ويرتزقون على أساس أن كل واحد منهم «أخو الشهيد». صديق لي كان يدير مشروعاً كبيراً فيه التزامات مالية كبيرة، فجاءه أحد الملتزمين الثانويين بفاتورة مضاعفة عما اتفق عليه، فطلب فواتير مفصّلة قبل أن يسدّد المبلغ المضاعف، فاستهجن الملتزم الذي كان قد كدّس ملايين لا تحصى وقال «ألا تستح من طلبك هذا وأنا أخو الشهيد!» كذلك هو وضع من تمّ توظيفه في مكان لا ينفع فيه، وإن نفع فلا يحضر، وإن حضر فينغّص على المجتهدين عيشتهم لكونه «أخو الشهيد»
.لكن الأخطر على المستوى السياسي، هو أنه من خبا بريقه وغاب وفقد دوره لسنوات لم يقدّم فيها شيئاً مفيداً في الشأن العام، فيأتي استشهاد بعض من شبابه المجاهد كطوق نجاة من الإندثار، وبدل أن يحترم ذكرى الشهداء بذكرهم بالخير، ينزل إخوة الشهداء للعراضات المسلّحة وسط الشوارع المزدحمة بالساعين إلى قضاء أمورهم في عزّ رمضان، فيستجلبون اللعنات على مشاهد كرهوها ونغّصت عليهم عيشتهم في الحرب الأهلية.
لكن، كل ذلك يبقى ضئيل الأهمية بالمقارنة مع من يريد أن يستولي على بلد بأكمله بأرضه وشعبه وموارده لكونه «أخو الشهداء» الأكبر... فأقول للشهداء الذين سقطوا «تصبحون على وطن» فيما إخوتكم يتسلقون على جراحكم.