جون هوفمان

إسرائيل عبء استراتيجي على الولايات المتحدة

29 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

نتنياهو في استقبال جو بايدن في مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب | 18 تشرين الأوّل 2023

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن حديثاً أن «العودة إلى الوضع الذي كان قائماً في الشرق الأوسط، في 6 تشرين الأول، مستحيلة». لكن عملياً، يرفض بايدن التخلي عن ذلك الوضع، لا سيما الجانب المرتبط بعلاقة واشنطن «المميزة» مع إسرائيل. ترتكز العلاقة الأميركية - الإسرائيلية في جوهرها على كمية لا مثيل لها من المساعدات التي تقدّمها واشنطن إلى حليفتها. تتلقى إسرائيل أكبر نسبة من المساعدات العسكرية الأميركية مقارنةً بكل الدول الأخرى، وقد حصلت على أكثر من 300 مليار دولار من الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

تتابع واشنطن تقديم مساعدات بقيمة 3.8 مليارات دولار سنوياً، بالإضافة إلى إبرام صفقات أسلحة وضمان منافع أمنية أخرى. (يتلقى عدد من أكبر المستفيدين، مثل مصر والأردن، مساعدات أميركية كثيرة مقابل الحفاظ على علاقات طبيعية مع إسرائيل). من المعروف أن الإسرائيليين وداعمي الدولة العبرية لهم تأثير هائل في واشنطن، فهم يحصدون الدعم من جميع الأفرقاء السياسيين عبر أشكال مختلفة من الضغط المباشر وغير المباشر. لكن لم تتّضح المنافع التي تحصدها الولايات المتحدة مقابل علاقتها أحادية الاتجاه مع إسرائيل.

يزعم مؤيّدو هذه العلاقة الثنائية أن الدعم المستمر لإسرائيل عامل أساسي لتحقيق المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. قد تحمل عمليات تقاسم المعلومات الاستخباراتية بعض المنافع الاستراتيجية، لكن أوضحت الحرب في غزة حجم الآثار السلبية التي تنتجها هذه العلاقة، لا سيما إضعاف مكانة واشنطن الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وتضرر صورتها على الساحة العالمية بسبب إصرارها على دعم إسرائيل في كل الظروف. جاءت هذه الحرب لتؤكد على الإخفاقات الكامنة في سياسة واشنطن في الشرق الأوسط.

كان يُفترض أن يُعاد تقييم العلاقات الأميركية - الإسرائيلية قبل هذه المرحلة بفترة طويلة.

أثبتت إسرائيل أنها لا تتكل على استراتيجية سياسية طويلة الأمد في غزة، بل تكتفي بتدمير القطاع وقتل سكانه. تراجعت نِسَب تأييد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أدنى المستويات في هذه الفترة، وهو يواجه احتجاجات متزايدة تدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة، ويبدو أنه يعرف أن وقته في السلطة سينتهي مع انتهاء الحرب.

مع ذلك، يعجز بايدن عن التحكم بعلاقة بلده المميزة مع إسرائيل أو استمالة نتنياهو لتغيير توجهاته، أو لا يبدي استعداده لفعل ذلك، علماً أن نتنياهو كان قد تفاخر سابقاً بقدرته على التلاعب بالولايات المتحدة.

بدأ البيت الأبيض يسرّب تقارير عن «استياء» بايدن المتزايد من نتنياهو، وبدأت الإدارة الأميركية ترفع الصوت لدعم وقف القتال موَقتاً. أطلق زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، موقفاً غير مسبوق حين دان تصرفات نتنياهو علناً في 14 آذار، فاعتبر أنه «أضاع طريقه» ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل. لكن لا يمكن تحقيق شيء عبر هذه المواقف الفارغة إذا لم تتغير السياسات بطريقة عملية.

لن تتوقف المذابح في غزة، أو تتبرأ واشنطن من تُهَم التواطؤ، أو يترسّخ الاستقرار مستقبلاً عبر الاكتفاء بخطوات رمزية مثل الأمر التنفيذي الأميركي الذي صدر في الفترة الأخيرة لفرض العقوبات على بؤرتَين استيطانيتَين إسرائيليتَين في الضفة الغربية، أو قرار بايدن بتكرار الموقف القائل إن توسيع المستوطنات الإسرائيلية «لا يتماشى مع القانون الدولي».

كَرَدّ مباشر على تلك المواقف، أعطت إسرائيل الإذن ببناء 3400 منزل جديد في مستوطنات الضفة الغربية، تزامناً مع بلوغ العنف ضد الفلسطينيين مستويات تاريخية. في المقابل، لم تتحرك الولايات المتحدة لمعاقبة المسؤولين عن ذلك القرار أو لمنع تطبيقه.

تقتصر خطة نتنياهو المعلنة حديثاً لحقبة ما بعد الحرب على إطالة مدة الاحتلال العسكري لقطاع غزة والضفة الغربية لضمان إرساء الاستقرار مستقبلاً. منذ 7 تشرين الأول، تفاخر نتنياهو مراراً بجهوده لمنع قيام دولة فلسطينية، واعتبر نفسه الشخص الوحيد القادر على منع نشوئها في المراحل المقبلة.

مقابل خطة نتنياهو، يشمل برنامج إدارة بايدن لحقبة ما بعد الحرب رؤية تُمهّد لإطلاق «مسار» يقود إلى إقامة دولة فلسطينية، لكنه لا يتضمن خططاً ملموسة لتنفيذ الخطوات المطلوبة من الجانب الأميركي أو الإسرائيلي.

يُفترض أن تثبت الحرب في غزة أن محاولة تجاهل مستقبل الشعب الفلسطيني هي استراتيجية حمقاء. لكنّ هذه الحرب رسّخت التزام نتنياهو وبايدن بالتمسك بالوضع القائم.

على صعيد آخر، يترافق دعم واشنطن الثابت لإسرائيل، رغم احتدام الحرب في غزة، مع تداعيات إقليمية كارثية. من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، تجازف سلسلة من نقاط اشتباك مختلفة بِجَرّ المنطقة (والولايات المتحدة) إلى حرب شاملة. كذلك، أدى دعم واشنطن المستمر لحملة إسرائيل الوحشية في غزة إلى تشويه صورة الولايات المتحدة باعتبارها حاملة لواء القيم الليبرالية، فهي استهزأت بهذه الطريقة بالمزاعم المرتبطة بـ»النظام الدولي الليبرالي» الذي يقوده الأميركيون.

ستكون أي حرب إقليمية كارثية بالنسبة إلى الشرق الأوسط والمصالح الأميركية. حتى أن أي حرب مماثلة لا تُعتبر مصيرية بالنسبة إلى صمود إسرائيل. لن تقوم أي دولة، ولا حتى إيران، بدفع إسرائيل في اتجاه البحر. يضمن تفوّق إسرائيل العسكري، وترسانتها النووية، واصطفافها الاستراتيجي مع معظم حكومات المنطقة، الحفاظ على أمنها رغم التحديات الوجودية المطروحة عليها.

يسمح موقف واشنطن لإسرائيل بالتحرك من دون التعرّض للمحاسبة، وتخضع السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط للتعديل سعياً إلى تحقيق أهداف تتجاوز حدود المصالح الأميركية. تشمل مصالح الولايات المتحدة في المنطقة حماية أمن الشعب الأميركي وازدهاره ومنع ظهور أي قوة إقليمية طاغية، تزامناً مع التمسك بالقيم التي يجاهر بها البلد. لكنّ الدعم التلقائي الذي تحظى به إسرائيل لا يُحقق أياً من هذه الأهداف.

في غضون ذلك، أعاقت الشوائب التي تطبع العلاقة المميزة مع إسرائيل قدرة واشنطن على القيام بأي مناورات استراتيجية في الشرق الأوسط، وأضعفت قدرة القادة الأميركيين على تكوين فكرة واضحة عن وضع المنطقة. في أواخر العام 2023 مثلاً، شوّه بايدن صورة بلده حين قال: «لولا وجود إسرائيل، لن يكون أي يهودي في العالم بأمان». هذا النوع من التفكير يجعل الكفاءة السياسية المنطقية مستحيلة.

أدت علاقة الولايات المتحدة غير المتكافئة مع إسرائيل مثلاً إلى منع واشنطن من التواصل ديبلوماسياً مع إيران، تزامناً مع دفع الأميركيين إلى استعمال القوة العسكرية هناك.

في آخر خمسة أشهر، حاولت إسرائيل مراراً أن تضغط على الولايات المتحدة لدفعها إلى خوض مواجهة مباشرة مع إيران، مع أن هذه الخطوة تتعارض مع المصالح الأميركية وتنعكس سلباً على استقرار المنطقة. قد تقع كارثة إقليمية شاملة بسبب أي تدريبات عسكرية عالية المستوى بين إسرائيل والولايات المتحدة، وهجوم إسرائيل الأخير على خطوط أنابيب الغاز في إيران، واستمرار التصعيد بين جماعات مدعومة من إيران والولايات المتحدة في أنحاء الشرق الأوسط.

على غرار طريقة التعامل مع أي دولة أخرى، يُفترض أن يرتكز التزام واشنطن بشؤون إسرائيل على تحقيق المصالح الأميركية بطرق ملموسة. حتى العلاقات الأميركية مع حلفاء مثل فرنسا أو كوريا الجنوبية تتخللها نقاشات، وخلافات، ومناوشات ديبلوماسية طبيعية. في المقابل، أنتجت العلاقة المميزة مع إسرائيل عدداً من أسوأ المسؤولين في السياسة الإسرائيلية، وشجّعت على تبنّي سياسات مدمّرة، وأساءت إلى مصالح البلدَين على المدى الطويل.

أخيراً، أدى دعم واشنطن الدائم للسياسات الإسرائيلية إلى حماية إسرائيل من تكاليف تلك السياسات. ما هي العوامل التي تدفع إسرائيل إلى تغيير مسارها إذا كانت أقوى دولة في العالم تمتنع عن فرض أي شروط مقابل دعمها السياسي والاقتصادي والعسكري؟ إذا اضطرت إسرائيل لتحمّل كل تكاليف سياساتها في الضفة الغربية مثلاً، من الأصعب أن تستمر أجندتها الداعمة لتوسيع المستوطنات.

بعبارة أخرى، لا تستفيد الولايات المتحدة من علاقتها المميزة مع إسرائيل، بل إنها تُضعِف المصالح الاستراتيجية الأميركية وتسيء إلى القيم التي تتمسك بها واشنطن ظاهرياً.

حان الوقت إذاً «لتطبيع» العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يعني ذلك اعتبار إسرائيل عدوّة للأميركيين، بل التعامل معها مثل أي دولة أجنبية أخرى، أي البقاء على مسافة منها والحفاظ على استقلالية كل طرف. يُفترض أن ترتكز القرارات المرتبطة بالمساعدات العسكرية، أو بيع الأسلحة، أو تقديم الغطاء الديبلوماسي، على نظرة المسؤولين إلى المصالح الأميركية المعرّضة للخطر. بدل تقوية السياسة الإسرائيلية وحمايتها ودعمها، يجب أن تعيد الولايات المتحدة توجيه علاقتها مع إسرائيل على أساس مصالحها الملموسة.

تتطلب هذه العملية أن تمتنع واشنطن عن تجاهل التجاوزات الإسرائيلية ضد المصالح الأميركية، وتسعى إلى إنهاء هذه الحرب الكارثية في أسرع وقت، وتتوصل إلى حل سياسي دائم للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.

أصبحت إدارة بايدن اليوم أمام خيارَين: اللحاق بحكومة نتنياهو نحو الهاوية، أو تكثيف الضغط عليها لدفعها إلى تغيير مسارها.

MISS 3