عقد الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد أشهر قليلة على بداية عهده الرئاسي الجديد، مؤتمراً صحافياً في «حديقة الورود» في البيت الأبيض، حيث عبّر عن سروره لأن «إيران لا تزال مستعدة للمشاركة في نقاشات مباشرة معنا ومع شركائنا لتحديد كيفية المضي قدماً والعوامل التي تسمح لنا بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة»، أي الاتفاق النووي الإيراني المبرم في عهد أوباما. كان ذلك التصريح الموقف الأكثر وضوحاً في شأن سياسة الرئيس تجاه إيران.
بعد مرور ثلاث سنوات، انهارت تلك النقاشات ولم تُستبدَل بأي مبادرات أخرى. يؤكد استطلاع شارك فيه ديموقراطيون وجمهوريون في الكونغرس، ومسؤولون في الإدارة الأميركية، وديبلوماسيون أجانب، ومراقبون للوضع الإيراني، على مسألة واضحة للجميع: لا تطبّق إدارة بايدن راهناً أي سياسة حقيقية للتعامل مع إيران وبرنامجها النووي. ذكر الرئيس إيران بشكلٍ عابر في «خطاب حال الاتحاد»، لكنّ غياب تلك السياسة يتزامن مع أسوأ الظروف على الإطلاق.
رغم التقدّم الحاصل في برنامج الأسلحة النووية الإيراني وقرار البلاد بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 في المئة، لم تُصدِر إدارة بايدن أي بيان رسمي عن انهيار سياستها السابقة. لكن استعمل بايدن أسلوباً أكثر وضوحاً في أوساطه الخاصة، فأخبر امرأة شاركت في تَجَمُّع للناخبين، في تشرين الثاني 2022، بأن الاتفاق النووي «مات». وعند تعليق عمل المبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي، بسبب انتهاكات أمنية لم تتّضح بعد، بدا وكأن كل الآمال المتبقية بإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني تلاشت.
تابعت وزارة الخزانة الأميركية في عهد بايدن فرض العقوبات على إيران بسبب تجاوزاتها في مجالات حقوق الإنسان، والصواريخ، والانتشار النووي، لكن بقيت معظم العقوبات المرتبطة بالنفط والغاز الطبيعي المسال ضعيفة وغير فاعلة، لا سيما تلك التي تستهدف الصين ومن يشترون منها الإمدادات. لا يجد الكثيرون سبباً مقنعاً وراء تساهل فريق بايدن الذي يسمح لطهران بمتابعة جمع الأرباح، مع أن مجلس الأمن القومي أنكر تساهل البيت الأبيض مع إيران. تعليقاً على الموضوع، صرّح متحدث باسم مجلس الأمن القومي لصحيفة «وول ستريت جورنال»: «لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بكل العقوبات المرتبطة بإيران، وهي لم ترفع أياً منها. كل الادعاءات المعاكسة كاذبة».
لكن يستمر تدفق صادرات النفط الإيراني إلى الصين بلا عقوبات. ربما تأمل إدارة بايدن حتى الآن في التوصل إلى اتفاق معيّن لكبح البرنامج النووي. أو ربما تتردد وزارة الخزانة في التحرك بسبب مخاوفها من ارتفاع أسعار النفط خلال سنة انتخابية. أو ربما تشعر إدارة بايدن بالقلق من تفوّق إيران بسبب تجاهلها لهذا الملف، ما يعني أنها مضطرة اليوم للتعامل مع إيران كقوة نووية بحكم الأمر الواقع.
في غضون ذلك، يبدو أن القوى الأوروبية، التي تعاونت مع الولايات المتحدة لإقرار «خطة العمل الشاملة المشتركة» في العام 2015 ودانت انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق في العام 2018، فقدت اهتمامها فجأةً في تعقّب الأسلحة النووية الإيرانية. بعد الاجتماع المضطرب لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تشرين الثاني، تكاتفت المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة، لإدانة قرار إيران بزيادة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة. لكن ذكرت وكالة «رويترز» في تلك الفترة أن «الحلفاء لم يلوّحوا بأي عواقب قد تواجهها إيران بعد رفع مستوى الإنتاج».
وبعد صدور تقرير جديد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فشل بيان مشترك في شهر شباط في طرح أي خطة عمل فاعلة، حتى أنه لم يُهدد بإدانة إيران بسبب انتهاكاتها لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. تبقى مواقف الاستنكار أقوى خطوة قد تتخذها الوكالة إذا لم تقرر إحالة الملف إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة.
الأغرب من ذلك هو عدم استعداد إدارة بايدن للتعاون مع حلفائها لإعادة فرض عقوبات تلقائية. بدت هذه الخطوة منطقية في لحظات محورية كثيرة، بما في ذلك المرحلة الراهنة. في تشرين الأول 2023، تعثّر قرار الأمم المتحدة الذي يمنع نقل الطائرات المسيّرة والصواريخ من إيران وإليها بسبب بنود «خطة العمل الشاملة المشتركة». أوقفت الولايات المتحدة وإيران التزامهما بذلك الاتفاق، لكن لا يزال قرار الأمم المتحدة الذي يحكم تلك الخطة ساري المفعول. من وجهة نظر إدارة بايدن، تنتهك إيران القيود المفروضة على برامج الصواريخ والطائرات المسيّرة المحلية منذ فترة طويلة. يسمح بند العقوبات التلقائية لأي طرف من الأطراف المتبقية في الاتفاق بإطلاق عملية لإعادة فرض كل عقوبات الأمم المتحدة في مجلس الأمن، بما في ذلك تدابير تستهدف الأسلحة والصواريخ التقليدية، ومن دون اللجوء إلى حق النقض للاعتراض على القرار.
بالإضافة إلى تجديد العقوبات المفروضة على الصواريخ وقرارات منع استعمال الأسلحة التقليدية التي انتهت صلاحيتها، قد يُجدّد بند العقوبات التلقائية القيود المفروضة على برنامج إيران النووي. لكن من المستغرب ألا تبدي فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، إلا اهتماماً شفهياً بتلك العقوبات، مع أنها مستاءة من دعم إيران لروسيا في أوكرانيا ومواقف كثيرة أخرى. أصرّت تلك البلدان كلها على فرض عقوباتها الخاصة على عمليات نقل الصواريخ الإيرانية. تنطبق العقوبات الأوروبية طبعاً على الجهات التي تدخل في نطاق الصلاحيات الأوروبية ولا تعاقب أطرافاً من دول ثالثة على صلة بنقل الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيّرة. باختصار، تسعى الولايات المتحدة وحدها إلى منع تورط أشخاص من دول ثالثة في تلك العمليات، لكن من دون جدوى.
تزداد المؤشرات التي تثبت اليوم أن تطرّف إيران المتزايد يطرح تهديداً على الولايات المتحدة. لم يتوقف الحوار مع إيران في العام 2022 بلا سبب. قبل أن يكشف هجوم حركة «حماس» في 7 تشرين الأول دور إيران الخبيث في الشرق الأوسط، أوضحت سلسلة من الأحداث تراجع استعداد النظام الإيراني للتعامل مع الغرب، أبرزها حملة القمع العدائية بعد مقتل الشابة مهسا أميني في أيلول 2022، وهو حدث استنكرته إدارة بايدن بأسلوب شديد اللهجة. وبعد فرض عقوبات جديدة بسبب قضية أميني، اقتصر أي حوار آخر بين واشنطن وطهران على جهود هدفها إطلاق سراح خمس رهائن أميركيين محتجزين منذ فترة طويلة في السجون الإيرانية. (سُمِح لهم بمغادرة إيران في نهاية المطاف، بعدما أفرجت إدارة بايدن عن 6 مليارات دولار من أموال إيران المحتجزة).
تزامناً مع تصلّب مواقف إيران المحلية، أصبحت سياستها الخارجية أكثر اصطفافاً مع روسيا والصين علناً. في آخر سنتين، كثّفت إيران دعمها للحرب الروسية في أوكرانيا وسلّمت أكثر من ألفَي طائرة مسيّرة لتسهيل الغزو الروسي. كذلك، دعم النظام في طهران بناء مصنع للطائرات المسيّرة في روسيا. يبرز أيضاً دور إيران في هجوم 7 تشرين الأول على إسرائيل، فهي تموّل حركة «حماس»، وتُسلّحها، وتدرّبها. في الوقت نفسه، تدعم إيران اعتداءات الحوثيين اليمنيين على سفن الشحن (هم يملكون صواريخ تزداد قوة وطائرات مسيّرة يصل نطاقها إلى 1500 ميل)، والاعتداءات التي تستهدف المواقع الأميركية العسكرية والتجارية على يد عدد من عملاء إيران في أماكن مثل البحر الأحمر، والعراق، وسوريا، والأردن (أدت الاعتداءات هناك إلى مقتل ثلاثة أميركيين منذ فترة).
تلاحقت هذه التطورات كلها قبل 7 تشرين الأول، في ظل انتشار قناعة متزايدة في المنطقة عن ابتعاد الولايات المتحدة أخيراً عن الشرق الأوسط. زاد التقارب بين دول الخليج وإيران في مناسبات متكررة بعد ظهور مؤشرات عدة على الانسحاب الأميركي، بما في ذلك امتناع الولايات المتحدة عن الرد على هجوم مدعوم من إيران بطائرة مسيّرة ضد مدنيين في الإمارات العربية المتحدة، أو الهجوم المدمّر ضد مصافي النفط السعودية. لم تقطع قطر علاقاتها مع طهران يوماً، لكن كان الإماراتيون والسعوديون قد حصروا روابطهم الديبلوماسية مع البلد أو قطعوها بالكامل في مرحلة معيّنة. وكما يحصل في معظم الحالات، أخذت دبي المبادرة أولاً ثم حذت الرياض حذوها سريعاً عبر إعادة فتح سفارتها في طهران.
بعد هجوم 7 تشرين الأول، زادت المخاطر المطروحة على إدارة بايدن. لا تزال الدوافع الكامنة وراء الابتعاد عن المنطقة قائمة (تطرح روسيا والصين مخاطر واضحة ومستمرة هناك)، لكن يتطلب التعامل مع الحرب بين «حماس» وإسرائيل وما يرافقها من دمار في قطاع غزة شكلاً من الالتزام الأميركي. بدأت الأصوات التي تدعو إلى تجديد عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تعلو، تمهيداً لإطلاق المسار الذي يضمن إقرار حل الدولتين. للتوفيق بين المصالح والأولويات الأميركية، سيصبح البيت الأبيض وحلفاؤه في أوروبا أمام خيارَين: تجديد الالتزام بشؤون منطقة يسيطر عليها الإيرانيون وعملاؤهم أكثر من أي وقت مضى، أو تقبّل هيمنة إيران وتطوّر برنامج أسلحتها النووية الفتاكة. يُفترض أن يكون الخيار الصائب واضحاً للجميع.