رافي أغراوال

فكرة الهند الجديدة

15 نيسان 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

مودي خلال الجلسة الأولى لقمّة قادة مجموعة العشرين في نيودلهي | الهند، 9 أيلول 2023

من المنتظر أن تُقام أكبر انتخابات في العالم على مر أسابيع عدة، بين منتصف نيسان وبداية حزيران. يبلغ عدد الناخبين المؤهلين للمشاركة في الانتخابات البرلمانية في الهند أكثر من 960 مليوناً من أصل 1.4 مليار نسمة، وتشير استطلاعات الرأي بكل وضوح إلى عودة رئيس الوزراء ناريندرا مودي و»حزب بهاراتيا جاناتا» إلى السلطة لثالث ولاية توالياً.



قد يُربِك نجاح مودي منتقديه، فهو يحمل ميولاً استبدادية متزايدة: نادراً ما يحضر مودي أي مؤتمرات صحافية، ولم يعد يشارك في مقابلات مع الصحافيين، علماً أن عدد من يجرؤون على طرح أسئلة صعبة عليه بات قليلاً. حتى أنه يتجنّب أي شكل من النقاشات داخل البرلمان. خلال عهده، أصبحت الغالبية الهندوسية في البلد طاغية في كل مكان. لكنّ هيمنة ديانة واحدة قد تترافق مع تداعيات سلبية، فتسيء إلى الأقليات وتشكك بالتزام البلد بالعلمانية. نتيجةً لذلك، تآكلت أسس الديموقراطية محلياً، بما في ذلك حرّية الصحافة واستقلالية القضاء.

مع ذلك، يفوز مودي دوماً بالطرق الديموقراطية. يذكر عالِم السياسة سونيل خلناني في كتابه The Idea of India (فكرة الهند) من العام 1997، أن الديموقراطية، لا الثقافة أو الدين، هي التي رسمت معالم بلدٍ كان في الخمسين من عمره حينها. برأي خلناني، كان أول رئيس وزراء للهند، جواهر لال نهرو المتعلّم في جامعة «كامبريدج»، تجسيداً حقيقياً لهذه الفكرة. كان نهرو يؤمن برؤية مبنية على بلد ليبرالي وعلماني يشكّل نقيضاً لباكستان التي نشأت صراحةً كوطنٍ مسلم. لكن يبدو مودي مختلفاً عن نهرو على مستويات عدة. وُلِد مودي في عائلة من الطبقة الوسطى الدنيا، ويشتق تعليمه من سفره في أنحاء البلد طوال سنوات كمنظّم للمجتمع الهندوسي، فكان ينام في منازل أشخاص عاديين وفَهِم خيباتهم وطموحاتهم الجماعية. ترتكز «فكرة الهند» التي يحملها مودي على الديموقراطية الانتخابية والرفاهية الاجتماعية، لكنها تختلف بشدة عن رؤية نهرو، فهي تضع الثقافة والدين في صلب شؤون الدولة، وتُعرِّف معنى الوطن انطلاقاً من الهندوسية، وتفضّل قائداً قوياً على الزعيم الليبرالي، حتى لو عنى ذلك تراجع الحقوق الفردية والحريات المدنية. مع مرور الوقت، بدأت هذه الرؤية البديلة (شكل من الديموقراطية غير الليبرالية) تتحول إلى اقتراح رابح بالنسبة إلى مودي و»حزب بهاراتيا جاناتا».

اليوم، يطرح مودي صورة أكثر قوة وفخراً عن بلده، ويحبذ الهنود هذه الصورة على ما يبدو. أبدى القطاع الخاص استعداده للمشاركة في اقتصاد واقعي ورقمي جديد في الهند، لكنه تردّد على نحو غريب في زيادة استثماراته. يشعر رجال الأعمال حتى الآن بالقلق لأن مودي لديه شركاء مفضّلين لتنفيذ خططه الصناعية. كذلك، تنتشر المخاوف من احتمال أن تنهار أفضل خطط الشركات بسبب تاريخ نيودلهي في السياسات الحمائية والضرائب بأثر رجعي.

عندما يخفق مودي، غالباً ما تكون العواقب وخيمة لأنه يملك نفوذاً هائلاً. في العام 2016 مثلاً، أعلن مودي فجأةً سحب العملة من التداول. كانت هذه الخطوة تهدف في الأساس إلى كبح فساد من يحصدون كميات كبيرة من المداخيل غير الخاضعة للضرائب، لكنها أدت في نهاية المطاف إلى تراجع النمو في الهند بنسبة 2 في المئة تقريباً. كذلك، شعر مودي بالهلع في بداية أزمة «كورونا» في العام 2020، فأعلن إقفال البلد فجأةً، ما أدى إلى تهافت ملايين العمال المهاجرين إلى بلدانهم الأم وتسهيل تفشّي الفيروس. بعد سنة على تلك الأحداث، لم تحرّك نيودلهي ساكناً حين انتشر متحور «دلتا» من فيروس «كوفيد» في أنحاء البلد، فقتل آلاف الهنود. لا يمكن أن تغطي أي نزعة قومية أو مشاعر فخر على حقيقة ما حصل: خذلت الدولة شعبها في تلك المرحلة.

في ظل تعطّش الشعب لأي أنباء سارة اليوم، تسعى الهند إلى الاستفادة من أفضل الصفقات في مجال السياسة الخارجية. تكثر الاتفاقات التي يمكن إبرامها في هذا النظام العالمي المتبدّل. تشهد القوة الأميركية تراجعاً نسبياً، تزامناً مع استمرار صعود الصين، وتحاول مجموعة من القوى المتوسطة ترسيخ مكانتها في العالم.

حصلت الهند على فرصة لتقوية مكانتها المستجدة على الساحة العالمية في أيلول الماضي، بعدما أعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أن أوتاوا تجري تحقيقات حول «مزاعم محتملة» مفادها أن عملاء الحكومة الهندية يقفون وراء مقتل زعيم من السيخ في مقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا. سارعت نيودلهي إلى إنكار تلك الادعاءات بشكلٍ قاطع واعتبرتها «سخيفة». كان الشخص المقتول، هارديب سينغ نيجار، قد حاول إنشاء وطن اسمه «خليستان»، وهو مستوحى من أرض تقع في بلدته الأم «بنجاب» (ولاية في شمال غرب الهند). في العام 2020، اعتبرته نيودلهي إرهابياً.

كان يُفترض أن يشعر مودي بإحراج كبير بعدما اتّهم زعيم كندي بارز الهند بتنفيذ جريمة قتل على الأراضي الكندية، لكنّ تلك الحادثة زادت دعم مناصريه له. بدا وكأن المزاج الوطني يتماشى مع خط الحكومة ويصدّق عدم تورط نيودلهي في تلك العملية.

يهدف مشروع «حزب بهاراتيا جاناتا» المرتبط ببناء الأمّة إلى إعادة ترسيخ شكل من الاعتزاز بالنفس عبر اعتبار الهندوس ضحايا لتجاوزات استمرت لقرون عدة، لكنهم نهضوا اليوم للمطالبة بمكانتهم الحقيقية. لهذا السبب، احتلّ افتتاح معبد رام في 22 كانون الثاني أهمية كبرى، فهو جدّد قناعة الهندوس بأن مطالبتهم بالمكانة المتفوقة التي تمتعوا بها سابقاً قضية محقة.

خلال معظم فترات العام 2023، تفاخرت الهند باستضافة قمة مجموعة العشرين وترأسّها لها بالتناوب، مع أن معظم البلدان الأخرى تعتبر هذه العملية روتينية. لكن حوّلها مودي إلى آلة تسويقية، فنشر لوحات إعلانية ضخمة للتعبير عن فخر نيودلهي باستضافة القمة، إلى جانب صورة كبيرة لرئيس الوزراء. حين بدأت القمة في شهر أيلول، نقلت القنوات التلفزيونية أجزاءً أساسية من الاجتماع مباشرةً وركّزت على مودي حين كان يستقبل عدداً من كبار قادة العالم.

قبل أسابيع، تجمّع الهنود للاحتفال بحدث بارز آخر. نجح البلد في إرسال روبوتَين إلى سطح القمر، ما جعل الهند رابع دولة تُحقق هذا الإنجاز وأول بلد يصل إلى قطب القمر الجنوبي. عرضت القنوات التلفزيونية بثاً مباشراً لعملية الهبوط، تزامناً مع دخول مودي إلى مركز التحكم بالبعثة، فظهر وجهه على شاشة مُقسّمة في لحظة الهبوط على القمر. قد تبدو هذه النزعة إلى تسويق نفسه مبهرجة أكثر من اللزوم، لكنها تعزز الشعور بتحقيق إنجاز جماعي والتمسك بهوية وطنية واحدة.

على صعيد آخر، يحظى موقف نيودلهي من موسكو بشعبية واسعة، إذ ينتقد البلد الدول الغربية التي تسعى إلى فرض العقوبات على روسيا بعد إقدامها على غزو أوكرانيا. كانت روسيا تُصدّر أقل من 1 في المئة من موادها الخام إلى الهند قبل العام 2022، لكنها ترسل أكثر من نصف إمداداتها إلى هناك اليوم. تشتري الصين والهند معاً 80 في المئة من صادرات النفط الروسية المنقولة بحراً، بكلفة أقل من سعر السوق بسبب سقف الأسعار الذي فرضه الغرب. لا أحد يأخذ المعايير الأخلاقية بالاعتبار لأن الهنود، على غرار عدد كبير من دول الجنوب العالمي، باتوا مقتنعين اليوم بأن الغرب يطبّق معايير مزدوجة في تعامله مع شؤون العالم. نتيجةً لذلك، لا وجود لأي معيار أخلاقي في هذه العمليات. بالنسبة إلى الهند، تقتصر أي صفقة نفطية مفيدة على معايير اقتصادية إيجابية وسياسات ذكية. (ثمة صداقة تاريخية بين الهند وروسيا أيضاً، ويحرص الطرفان على التمسك بها).

تشتق ثقة الهند المتزايدة بسياستها الخارجية من اقتناعها بأن البلدان الأخرى تحتاج إليها اليوم أكثر من السابق. يبدو أن الحلفاء يدركون هذا الواقع المستجد. تعتبر الولايات المتحدة منع نيودلهي من التقرّب من بكين انتصاراً جيوسياسياً يغطّي على أي خلافات أخرى، حتى لو لم تهبّ الهند لمساعدتها في أي صراع محتمل مع الصين في مضيق تايوان. في الوقت نفسه، تعطي بلدان أخرى الأولوية للوصول إلى سوق الهند المتوسّع.

يتماشى تمسّك الهند بمصالحها الاستراتيجية مع تغيرات متزايدة في نظرة البلد إلى نفسه. نجح مودي و»حزب بهاراتيا جاناتا» في ترسيخ الفكرة القائلة إن الهند اضطرت للتضحية بالليبرالية الغربية لتحقيق مصالحها الداخلية. من خلال استغلال طموحات الشباب الاقتصادية ورغبتهم في فرض هويتهم في عالمٍ يزداد ترابطاً اليوم، وجد «حزب بهاراتيا جاناتا» الفرصة المناسبة لتنفيذ أجندة دينية وثقافية لم يتصورها أحد قبل جيلٍ واحد. لا يمكن تطبيق تلك الرؤية دفعةً واحدة، إذ تتطور إرادة الأمم دوماً مع مرور الوقت. من المتوقع أن تزيد المنافسة مستقبلاً بين أفكار أخرى عن طبيعة الهند. لكن إذا تابع «حزب بهاراتيا جاناتا» بقيادة مودي الفوز في الاستحقاقات الانتخابية، قد يثبت التاريخ أن تجربة البلد الليبرالية لم تتوقف بكل بساطة، بل كانت مجرّد استثناء على القاعدة.

MISS 3