جوزيف باسيل

السيد Cooper وتابعه لعقل العويط...علاقة ملتبسة في التبعية والإستتباع

8 أيار 2024

02 : 05

ربما كتاب عقل العويط «السيد COOPER وتابعه» أحد أهم دواوينه نثراً، فمقدار الأحاسيس فيه يطغى على الندّية الشعرية، فهو يفسّر لك أنّ كوبر «سيد على نفسه، وأنه مستحق هذه السيادة على اسمه وعلى كينونته، أما التابع فعلى غرار سانشو تابع دونكيشوت لدى سرفانتس».

وإذا كان الشعر يتصف بالشعور والمبالغة، فإنّ المبالغة في وصف الأحاسيس في هذا الكتاب، تجعله شعراً نثرياً، إذ يحاول العويط أن يعبّر عن أحاسيس «كوبر»، كما يفهمها البشر طبعاً، في حال الافتراض، لا شيء في اليقين، حتى نحن لا نكون في اليقين حين نعبّر عن أحاسيسنا، فالتعبير عن الإحساس بالكلمات، هو كالفارق بين النظرية والتطبيق في مفاهيم العالم. يكتب: «كانت تترسخ في ما بيننا وشائج شتى ومشاعر تتخطى ما يُذكر في الكتب والروايات والأخبار، الحقيقية والمتخيلة في هذا الشأن»، لكنه يستدرك «كل ما أكتبه، كل ما سأكتبه سيكون نوعاً من اقتراب المعنى من مقاربته لا أكثر».

يذكّرني بقصة «يوميات هر» للراحلة إملي نصرالله عن هرّها، حيث افترضت بما كتبته أنها تعبّر عن أحاسيس الهر.

يمكن تفسير العنوان وشرح قول العويط إنه التابع بما شرحه عن نمط العلاقة، فمن يفرض مشيئته فيها يكون هو السيد والمتبوع، ويكتب في هذا الشأن «كان كوبر شخصاً أي كائناً أي آخر. إنه هو هذا الآخر المقيم فيَّ الملازم وجودي المادي»، لكنه تجاوز حالة المعقولات إلى الافتراضات بقوله «عيشاً مشتركاً بين بشريين عاقلين. لا بين رجل وكلب». إنه يفسح المجال لجدل بيزنطي عصري طويل.

يعبّر بوضوح عن إحساس عميق يتبلور في هذا النص النثري بتجليات شعرية هي من عمق أحاسيس الشاعر حين ينظم قصيدته، بقوله «أدركُ بوعي فادح ما تعنيه كلمة أحبه. إني أحبه حقاً بما يجعلني قابلاً منه كل استبداد، ومتنبهاً إلى ما تستوجبه هذه العلاقة غير المتكافئة بيننا من ولادة تغييرات مستقبلية، ومن دلالات التخلي عن انشغالات الذات والاستغراق في الأنا، ومن الاهتمام بتفاصيل لم أكن أوليها أي اعتبار». لكن القصيدة المنفعلة، شعرية أو نثرية، هي شعر خالص، كما وردت بقوله «هي لغة عينيه... ربما هي أعلى من اللغة، لأنها بلا حروف، بلا صوت، وبلا شكل... ومن شأن هذا الشعر أن يجعل الوجود قابلاً للعيش». طالما ارتبط الحب بالوجود فحيث يكون الأول ينوجد الثاني.

يربط العويط الألم بأنواع من الأوجاع تتناوب علينا فتحرمنا لذة الحياة، ليس الموت هو الأقسى على الحياة، بل الوجع، خصوصاً إذا كان من نوع «وجع الوجود»، والأقسى «خراب الوجود» حيث يضيّع الشاعر هويته الشعرية وبصمته الوجودية، ورضاه عن نفسه، فيعجز عن مصالحتها. بشعرية طغت عليها الحكمة كأنها «ملحمة صغيرة»، يكتب العويط نمطاً صعباً من الكتابة عن الذات والآخر، لكن الآخر ليس إنساناً ولا حبيباً ولا صديقاً... لكنه سمّاه إنساناً وحبيباً وصديقاً، أين الوجد في ما كتب؟ إنها ملحمية تغيير المفاهيم والمصطلحات، وتسطيح الوجود في معرض تعميقه، وتعميق الشرخ الوجودي في معرض توضيحه.

يؤدي «وجع الوجود» إلى شعور متفاقم بالضعف والهشاشة، يقول «كم أنا عدم، حيال حقيقة الوجود، حيال المصير، حيال الحب، وحيال الأحزان تحديداً، كم أنا غبار يا كوبر». صرخة عدمية.

يختلف اللبنانيون - أحصر الخلاف بهم – على مسألة تربية الحيوانات في بيوتهم، خصوصاً الكلاب، على اختلاف أحجامها وأنواعها، بين مؤيد ومعارض، إذا لم تكن هناك حدائق لإيوائها، وحيث تقيم في شقق صغيرة مع أفراد العائلة، ما يزيد المشكلة تعقيداً، فضلاً عن أنّ الموضوع يخرج عن المكان والمساحة إلى الحالة بحدّ ذاتها، خصوصاً بعدما صارت حالة شغف محيّرة، كأن ترى من يجعل كلبه فرداً من العائلة، لئلا أقول أكثر! تعجب أيها القارئ، لكنه موجود ويثير الاستغراب.

ماذا كتب العويط في هذا الشأن؟ كتب: «أصدقاء لي يُبدون كل مرة، كل يوم اندهاشهم حيال العلاقة التي تربطني، بكوبر، متعجبين منذهلين، مما يعتبرونه شأناً «غير طبيعي» بين شاعر و»كلب»، لست أدري لماذا لا ينادون كوبر باسمه: كوبر. هل يتناسون لا إرادياً اسمه، فيسمونه «كلباً»؟ هل يتلافون، قصداً، استخدام كلمة تخفيفية، لما لكلمة «كلب» من وقع سلبي وهجائي في الأذن العربية، ومنعاً لدلالاتها الدونية؟ يستغربون كيف أبذل من أجله مثلما أبذل لنفسي أو لبنيَّ أو لأهلي وأحبابي وأصدقائي الخلص، عارفين أني أمرّ في ضيق مادي محرج للغاية».

وللتدليل على كلامي السابق، يكمل العويط «مرة وبّخت أحدهم، قائلاً له: كوبر بمنزلة أخي وابني، كيف تريدني أن أعامله؟ أأتركه مثلاً بدون حمام شهري، بدون طعام صحي، بدون عملية جراحية، فيصبح معطوباً في مشيته؟ أم أطعمه النفايات، أم أمنع عنه الأدوية ومواعيد الحقن والتلقيح الطبية فأعرّضه للأمراض المعدية ولشتى أنواع الأوبئة والفيروسات؟».

لا شك في أنها معضلة اجتماعية كبيرة، يفاقمها من يُخرج كلبه ولا ينظّف مخلّفاته وراءه. ومعضلة إنسانية لمن ترنحوا على طريق الإنسانية ولم يوفوها حقها، ثم يتساءلون: لماذا لا تشمل الإنسانية الحيوان؟! ( حكم عام من مشاهداتي لا يشمل العويط)

يثير الكتاب إشكالية تاريخية، ككثير من الإشكاليات العصرية التي تعمل على تغيير المفاهيم بسعيها إلى تغيير المصطلحات. إنّ عقل على خلاف عميق مع وجوده، قد يكون أعمق من مصالحة مع الذات، وهي درجة أولى إلى مصالحة مع الوجود أو المطلق. يقول «أجدني في أحيان من الدهر غير راضٍ حتى بالوجود برمته». إنه التماهي بين الكائنين في الوجود والعدم والوحشة والصمت والحزن والشرود... يتمثل التماهي في ما كتبه التابع: «نظرة واحدة من عيني كوبر لقادرة أن تختصر في برهتها الخاطفة سبعين عاماً من عمر فلسفتي المتمحورة حول اللاجدوى، حول العبث، حول العدم الذي يمحق نخاع الحياة الشوكي ويعصف لا بحياتي فحسب، بل بمجمل نظرتي إلى الشرط البشري برمته».

يعبّر عن مشاعره وأفكاره وخيبات أمله في الحياة بمخاطبة كوبر مباشرة، أو بلغة ثالثة، ليقول «هو بات يفهم عليّ ويفهمني، وأنا بتّ أفهم عليه وأفهمه، وأتفهمه، في الآن نفسه. لا أغالي إذا كنت أعتبره كائناً، إنساناً من المؤكد بالنسبة إليّ أنه يملك روحاً، أنه ذو نفس، وأنه عاقل. أي إنّ في مقدوره أن يعقل الأمور والأشياء ضمن حدودٍ ما، ولا يفصله عن العقلنة البشرية إلا ما لا طاقة لدماغه على إدراكه بحكم أليافه النخاعية وتكويناتها النسيجية. لو أوتِيَ لدماغه، لنخاعه، أن يتطور وينمو، لكان صار سوبر عقلاً، وسوبر بشراً. غير أنّ كوبر يعوّض عن هذا النقصان بغريزة إدراكية حادة مرهفة، بديهية، وعفوية، لكن ذكية وعالية الشأن».

كلام رائع فوق الشاعرية، وليس من كلام أوضح من هذا، وليس كلاماً تبريرياً، إنما كلام اقتناع بغية الإقناع. كان يقال إنّ الإنسان حيوان ناطق أو عاقل، فهل نقول: الحيوان إنسان غير ناطق، لكنه يعقل الأمور بالبديهة والإحساس. إنها نظرية جديدة فلنترك الحكم فيها للعلماء من ذوي الاختصاص، وليس للشعراء.

دفع المعنى في قصيدته النثرية إلى منتهاه بأن أضفى على كوبر صفات الناس ومشاعرهم، بعد تساؤله: «أأحب كوبر تعويضاً، أو هرباً، أو تملصاً، أو يأساً؟»، أدرك أنه وضع إصبعه على جرح يدمي ولا يبكي، أن تتحول عاطفة الإنسان عن الإنسان إلى حيوان. وما الضير في ذلك؟ يكتب «أعرف أني أحبه لأجل ذاته، وبسبب وجوده، ولأنه هو أشهد إني أحبه، لا تعويضاً، ولا هرباً، ولا تملصاً، ولا يأساً».

إنّ الفراغ العاطفي الإنساني يمكن تعويضه بعاطفة حيال حيوان، كما حيال إنسان آخر. إنّ لحظة الفراغ تغلب فيها المراوحة بعد اليأس والاستسلام قبل التلاقي مجدداً على مرتبة أدنى أو أعلى من الرغبة. شخصياً لا أفهم العلاقة العاطفية مع الحيوان ولا أشعر بها، لكنني لا أنكرها على غيري.

قد تنمو عاطفة ما بين إنسان وحيوان، كلب أو هر أو ببغاء أو غيرها (غيرهم) لكن تبقى محدودة في زمانها ومكانها، ولا يجوز تعميمها على كل الناس.

إنّ الصفات التي يطلقها على «كوبر»، وعددها 12، قد تبرر سؤال «لوموند ديبلوماتيك» على غلافها: «الحيوان أيمكن اعتباره مواطناً كالآخرين؟». بالصفات التي أوردها العويط، طبعاً، بل هو مواطن شرف!

وإذا تقصّينا البيوت التي تربّي الكلاب تحديداً في أوروبا، بدلاً من الأولاد، لزاد عدد المواطنين في الاتحاد الأوروبي ثلاثة أضعاف.

إنّ النص مونولوج داخلي يتوجه بالحديث إلى كوبر شكلاً، يخبرنا معاناة الشعراء من ذواتهم ومعاناة «كل من خِلق عِلق»، كيف إذا كان من لبنان وفيه؟ إنّما مأساة الإنسان في كل العالم تقارب الخطيئة الأصلية، أما مأساته في لبنان فهي الجحيم نفسه. إنها مرحلة يأس مطلق يعبّر عنه بقوله: «أصطدم بالحائط الروحي بالقعر»، هل لهذا علاقة مباشرة بالعاطفة المتفجّرة حيال كوبر، بعدما أُسقط في يد العويط؟ الذي يكتب: «صدقني يا كوبر، وأنا أقول هذا لك وحدك: لا الشعر يخلّص ولا الحب يخلّص ولا الجنس يخلّص ولا الأديان تخلّص»، فُقد الأساس بنبض الحياة.

لا بدّ من القول إنّ الكلب الذي كان رفيق الإنسان منذ تدجينه قبل آلاف السنين، بقي خاضعاً للتجربة كحيوان أليف لكنه شرس، حتى هذا العصر حين صار التعامل معه كـ»إنسان»، هذا ما نستشفه من نص العويط، وليس وحده من أضفى هذا الكبر الإنساني على هذا الحيوان، لكأننا أمام مرحلة جديدة من التطور الدارويني. وعلى رغم اختلاف النظرة إلى الكلب بين الحاضر والماضي، إلا أن الأخبار عن وفائه لأصحابه تروى في كل زمان ومكان.

آخر ما قرأت في المقارنة بين الإنسان والحيوان، للعالم الهولندي فرانس دي فال الذي توفى في آذار الماضي، أنه غيّر «المفاهيم المسبقة القديمة حول تعريف الإنسان والحيوان»، وقال: «ينظر الى ( القردة العليا كالشمبانزي) بأنها مدفوعة قبل كل شيء بالغريزة والبيولوجيا، ولكنني أرى أيضاً ثقافة لديها». وحقّق اكتشافاً كبيراً أنّ القردة كالشمبانزي «يتصالح بعضها مع بعض بعد العراك». بالمنظور الاجتماعي أليست القردة أفضل حساً بالتقارب من الإنسان؟. وقال دي فال إنه منذ أدرك ذلك «بدأ بتغيير صورته عن البشر».

أما العويط فيقول «أجدُني مسروقاً إلى فيلم «هاتشي» الذي يروي قصة العلاقة المذهلة بين أستاذ جامعي يؤدي دوره الممثل المعروف ريتشارد غير، والكلب هاتشي من فصيلة «أكيتا» الذي بقي عشر سنين، إلى حين وفاته عجوزاً عند محطة القطار، منتظراً بلا جدوى عودة معلمه من … الموت».

ومن ذلك حكاية الكلب «تومي» الذي عاش في كنف سيدة في بلدة «سان دوناتشي» بمنطقة «برنديسي» في إيطاليا. ومنذ وفاة صاحبته لا يتخلف عن حضور القداس في كنيسة البلدة التي أقيمت فيها مراسم دفنها. فعندما يدقّ جرس الكنيسة صباح كل أحد يتوجه «تومي» من الساحة إلى الكنيسة ليجلس أمام المذبح طوال القداس، مطرقاً رأسه.

وكان «تومي» رافق نعش صاحبته في دفنها، وتقبّل الكاهن وجوده آنذاك، كما صار يفعل كل أحد. وكانت صاحبته تقيم وحيدة مع أربعة كلاب شاردة استقبلتها في منزلها، ومن بينها «تومي» المفضَّل لديها، يلحق بها عندما كانت تخرج من المنزل وينتظرها على الرصيف كلما دخلت متجراً حتى تخرج. قبل وفاتها كان ينتظرها عند باب الكنيسة حتى انتهاء القداس، لكن منذ سمح له الكاهن بالدخول عند وفاتها صار يحضر كل مراسم الزواج والعماد والدفن في البلدة، كأنه كان يمثّل صاحبته ويعطي الآخرين درساً في الوفاء والإخلاص. يقدَّر جداً درس الوفاء الغرائزي الذي يلقنه للغالبية العظمى من الناس، لكن هل يجعل ذلك منه إنساناً عاقلاً؟ بالطبع، ليس لزوماً أن يكون إنساناً كي تحبه.

MISS 3