كبير تانيجا

بعد هجوم موسكو...الإرهاب يصبح جزءاً من مشكلات آسيا

9 أيار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

طوق أمني خارج قاعة الحفلات الموسيقية المحترقة Crocus City hall عقب العمل الارهابي في كرانوجورسك (روسيا 22 آذار 2024)

شكّل الهجوم الإرهابي الذي استهدف حفلاً موسيقياً في موسكو في 22 آذار، صدمة مألوفة على نحو مريب بالنسبة إلى الروس. عاد تنظيم «الدولة الإسلامية» وأعلن مسؤوليته عن الهجوم لاحقاً. في العام 2002، بعد مرور سنة على هجوم 11 أيلول، حاصر إرهابيون إسلاميون موالون لحركة انفصالية في الشيشان مسرح «دوبروفكا» في موسكو. قُتِل حينها أكثر من 130 شخصاً خلال عملية إخلاء المسرح.



أسفر هجوم الشهر الماضي عن مقتل 144 شخصاً على الأقل، لكنه أحدث تصدعات جيوسياسية عدة. قبض الكرملين على عدد صغير من المعتدين المُشتبه فيهم وزعم أن الإرهابيين كانوا ينوون التوجه إلى أوكرانيا، حيث لا تزال روسيا متورطة في حرب لامتناهية. اتخذت هذه القصة منحىً مختلفاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث طغت نظريات المؤامرة على الوقائع.

تزامناً مع تحوّل الأنظار شرقاً نحو تنظيم «الدولة الإسلامية في ولاية خراسان»، فرع «داعش» في أفغانستان، انتشرت آراء متناقضة حول وقوع عملية مفبركة من تصميم الغرب، لا سيما في وسائل الإعلام الروسية، وعمدت مواقع التواصل الاجتماعي إلى تضخيم هذه الأفكار.

تزامناً مع اللجوء إلى هذا النوع من مصادر الإلهاء، كان تنظيم «الدولة الإسلامية» الفائز الأكبر. نشر المتحدث باسم هذه الجماعة، أبو حذيفة الأنصاري، رسالة صوتية مدتها 41 دقيقة بعد بضعة أيام على هجوم موسكو. كانت تلك الرسالة تحمل عنوان «هذا الدين [الإسلام] سينتصر بإذن الله»، ولم تُذكَر روسيا فيها إلا بشكلٍ عابر. لكن هنّأ الأنصاري بيئة «الدولة الإسلامية» وفروعها على عشر سنوات ناجحة من عهد الخلافة.

قبل ساعات على نشر تلك الرسالة، قام التنظيم بإصدار فيديو ترويجي مدته 18 دقيقة باللغة البشتونية لانتقاد تواصل حركة «طالبان» الأفغانية مع الهند. لطالما أثارت الحملة الدعائية الخاصة بتنظيم «الدولة الإسلامية» انقسامات طائفية في الهند لتحريض المسلمين ضد الدولة.

هذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها التنظيم الهند، لكنه لا يُركّز هذه المرة على الهند بحد ذاتها، أو نظامها الديموقراطي، أو نزعتها السياسية الهندوسية القومية، بقدر ما يستهدف سلوك حركة «طالبان».

كان الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، ثم عودة «طالبان» إلى السلطة في العام 2021، لحظة مفصلية بمعنى الكلمة. أرادت واشنطن في تلك الفترة أن تُركّز على مناطق جديدة من المنافسة الاستراتيجية في آسيا.

وقعت المسؤوليات حينها على عاتق القوى الواقعة داخل المنطقة، فاضطرت هذه الأخيرة للتعامل مع حركة متطرفة تسيطر على دولة مجاورة أساسية. طوال أكثر من عشرين سنة، استفاد جيران أفغانستان، بما في ذلك الصين وروسيا، من المظلة العسكرية الواسعة التي قدّمتها الولايات المتحدة وحلف «الناتو»، ما سمح لهم بتحقيق مصالحهم الاستراتيجية، منها كسب النفوذ بفضل الانقسامات العرقية في أفغانستان، والتأثير على سماسرة السلطة الذين يمثّلون تلك الجماعات من دون الحاجة إلى أي التزام عسكري واسع.

سُرَّت روسيا، والصين، وإيران، بالوضع المستجد. بعد عقدَين من الزمن، اختفت التعزيزات العسكرية الأميركية على الحدود الشرقية لإيران فيما بلغت علاقات البلد أدنى مستوياتها مع واشنطن. في غضون ذلك، يُعتبر تاريخ طهران مع أفغانستان عموماً و»طالبان» خصوصاً صدامياً.

على مر التسعينات، دعم الإيرانيون الجماعات المعادية لحركة «طالبان». لم تتخذ طهران وحدها هذا الموقف، فقد دعمت دول أخرى، لا سيما الهند، وروسيا، وطاجيكستان، تلك الجماعات ضد «طالبان» ومناصريها في باكستان.

في العام 2021، قررت إيران أن تتخذ مساراً معاكساً، ففتحت قنوات ديبلوماسية واقتصادية مع النظام الجديد في كابول، وسعت إلى حشد الدعم مقابل مستوى مناسب من مناهضة الغرب وهدوء نسبي على الحدود.

حذت موسكو وبكين، أقرب حليفتَين لإيران، حذوها لاحقاً. اعترفت إيران، وروسيا، والصين، بحركة «طالبان» كحاكمة أفغانستان شبه الرسمية، واتخذت بكين خطوة إضافية في هذا المجال حين وافق الرئيس الصيني شي جينبينغ رسمياً على تعيين سفير جديد من اختيار «طالبان» في بلده.

ترددت روسيا من جهتها بسبب تاريخها في محاربة المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة وخسارتها أمامهم، بين العامين 1979 و1989، وصدرت عنها انتقادات متزايدة، لكنها وافقت على تعيين ديبلوماسيين تابعين لنظام «طالبان» في موسكو، في العام 2022، حتى أنها تفكر راهناً بشطب «طالبان» من لائحة المنظمات الإرهابية المحظورة.

يطرح الموقف الذي اتخذته هذه الدول الثلاث خطراً مدروساً: هي تعتبر حُكم «طالبان» أزمة مقبولة مقارنةً بالوجود العسكري الأميركي الواسع، بعدما بدأت المنافسة بين القوى العظمى تطغى مجدداً على العلاقات الدولية المعاصرة.

اختارت دول أخرى، مثل عدد كبير من بلدان آسيا الوسطى، التواصل مع كابول لتجنّب العودة إلى صراع إقليمي أو انتشار الأفكار المتطرفة عبر استعمال «طالبان» بحد ذاتها كأداة عازلة ومحاولة الحفاظ على توازن معيّن في المنطقة.

أصبحت باكستان، داعمة «طالبان» منذ فترة طويلة، عالقة في خلاف بين الجماعات التابعة لها في أفغانستان، فيما تتابع «حركة طالبان باكستان» تنفيذ حملة عسكرية ضد إسلام آباد. في غضون ذلك، بدأت الهند التوفيق بين مصالحها الاستراتيجية والتكاليف القديمة المترتبة عن تطبيع علاقاتها السياسية مع تلك الكيانات.

على صعيد آخر، بدأت جماعات متطرفة مثل «طالبان» تميل إلى تحقيق انتصارات سياسية. خلال الحرب المستمرة راهناً بين إسرائيل وحركة «حماس»، تفوّقت هذه الأخيرة على مستويات عدة عبر اكتساب شرعية لم تكن تتوقعها يوماً رغم هجومها ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023. نجحت «حماس» في تغيير الفكرة الشائعة عنها، فتحوّلت من جماعة إرهابية محظورة إلى حركة ثورية تهدف إلى تحرير فلسطين. حتى أن قيادتها السياسية في قطر استنكرت الهجوم الإرهابي في روسيا.

تتّضح سخافة الوضع القائم حين تقوم جماعة إسلامية متطرفة باستنكار عمليات جماعة إرهابية إسلامية أخرى. زار قادة «حماس»، مثل إسماعيل هنية، إيران وروسيا طلباً للدعم. طالبت بكين من جهتها بوقف الأعمال العدائية، لكنها لم تستنكر أفعال «حماس» مباشرةً حتى الآن. من ناحية معيّنة، يبدو أن هذه الدول كلها تحبّذ التواصل مع هذا النوع من الجماعات المتطرفة إذا كانت هذه الخطوة تسمح بإضعاف قوة الولايات المتحدة وهيمنتها.

في غضون ذلك، بدأ حجم التعاون الدولي ضد الإرهاب (بلغ مستويات بارزة بعد هجوم 11 أيلول وخلال الحرب العالمية المزعومة على الإرهاب) يتلاشى بوتيرة سريعة. حتى العام 2015 مثلاً، سمحت موسكو لطائرات الإمدادات العسكرية التابعة لحلف «الناتو» والمتّجهة إلى أفغانستان باستعمال مجالها الجوي. اليوم، بدأت منتديات متعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة، تشكك مراراً بأهداف تلك العمليات ومنافعها.

بالنسبة إلى جماعات مثل «الدولة الإسلامية»، يبدو هذا الوضع إيجابياً جداً. تعتبر معظم تلك القوى المتنافِسة التنظيم تهديداً أمنياً يتطلب حلولاً عسكرية، لكن ينتج غياب الإجماع في هذا المجال فراغاً هائلاً قد تزدهر فيه تلك الكيانات. وفيما تضطر معظم الدول المجاورة لأفغانستان لتكوين نظرة إيجابية عن «طالبان» اليوم، نظراً إلى نفورها المعروف من «الدولة الإسلامية» وفكرها (بسبب الاضطرابات السابقة بين الديوبندية والسلفية الجهادية)، قد يصبح التعاون العالمي المتماسك والفاعل ضد الإرهاب مستبعداً بسبب هذه الوقائع الجديدة.

هذا الوضع يطرح سؤالاً مُلِحّاً: من سيقود حملة مكافحة الإرهاب العالمية؟ على المستوى العسكري، لا تزال أنواع القدرات التي تستعملها الولايات المتحدة ضد الجماعات الإرهابية متفوّقة على الجميع. بدءاً من قتل أبو بكر البغدادي في العام 2019، وصولاً إلى تحوّل خلفاء «الدولة الإسلامية» الجدد إلى مجرّد شخصيات تفتقر إلى الوجوه والأسماء في معظم الحالات، كانت «عملية العزم الصلب» بقيادة الولايات المتحدة في سوريا ناجحة، وهي مستمرة حتى اليوم. لكن يتحدّى توسّع ولايات «الدولة الإسلامية» ونفوذها الفردي تلك النجاحات.

في أفريقيا، بدأت روسيا تقوّي أمراء الحرب المحليين والمقاتلين الهواة لتمكينهم من استهداف «الدولة الإسلامية»، تزامناً مع توسيع وجودها فيما تتخبط قوى غربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، للحفاظ على مكانتها العسكرية. يبدو أن روسيا والصين تحبذان النموذج القائم على دعم الأنظمة في أماكن مثل مالي وبوركينا فاسو عبر ضمان الاستقرار السياسي ودفع الدول إلى محاربة جماعات مثل «الدولة الإسلامية».

كشف هجوم موسكو الأخير أن حقبة احتدام المنافسة بين قوى بارزة تتحمّل الجماعات الإرهابية التي تستهدف خصومها، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تجدّد الإرهاب الإسلامي. لا مفر من أن يعطي هذا المشهد الجيوسياسي الجديد فرصاً إضافية للجماعات الإرهابية، فيسمح لها بالتوصل إلى تسويات سياسية عن طريق التفاوض أكثر من أي وقت مضى.

يبدو أن المقولة الشائعة والمكروهة، «الإرهابي بنظر البعض هو مناضل من أجل الحرية بنظر البعض الآخر»، هي المعادلة الرابحة بالنسبة إلى الجماعات التي اعتُبِرت سابقاً مصدر تهديد، لكنها تطمح للتحول إلى أصحاب مصلحة مستقبلاً.

MISS 3