لا يهم الشعور الذي كوّنه المطران نصر الله صفير عن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في اللقاء الذي حصل بينهما. فهو في النهاية مطران يقف للمرة الأولى أمام رأس الكنيسة الكاثوليكية، ومن الطبيعي أن يكون مندهشاً بهذا اللقاء وبهذا الرجل وبذاك المكان. فقد جاء من أجل مهمة محدّدة تتعلّق بالمطالبة بانتخاب بطريرك جديد للطائفة المارونية وتجاوز مسألة تعيين المطران إبراهيم الحلو مدبّراً بطريركياً ليقوم مقام البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش الذي اعتُبر مستقيلاً. لا يهم أيضاً الشعور الذي كوّنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن هذا المطران الآتي من كنيسة لبنان المارونية، حاملاً رسالة اعتراض على القرار الفاتيكاني، فهو يدرك أيضاً أنّ لبنان والكنيسة المارونية فيه، كانا يمران بفترة عصيبة، وأنّ بكركي يجب أن يكون لها دور في هذه المرحلة، ولهذا السبب كان القرار الذي اتخذه وتم الإعتراض عليه.
لم تكن تلك المرّة الأولى التي يحصل فيها تدخّل فاتيكاني في إدارة شؤون الكنيسة المارونية. فغالباً ما تكون أروقة الكرسي الرسولي محطّ شكاوى واعتراضات كثيرة على أوضاع غير طبيعية في الكنيسة، وترى أنه من الواجب أن تتدخّل لحسمها.
ربما أهم ما حصل في اللقاء بين المطران والبابا أنّ الثاني صار أكثر اقتناعاً بضرورة حسم مسألة انتخاب بطريرك جديد. هل كان للمطران صفير دور في هذه القناعة؟ ربما كان تأثيره في تسريع موعد الانتخاب وليس في القرار بحدّ ذاته، ذلك أنّ الفاتيكان لم يكن أبداً في وارد إطالة عمر المرحلة الانتقالية، وكان يفضّل انتخاب عدد من المطارنة الجدد قبل انتخاب البطريرك، إنّما يبدو أنه صار أكثر ميلاً إلى تجاوز هذه المسألة. ولكن هل اختار البابا أن يكون صفير هو البطريرك الجديد؟ لا يمكن اعتماد هذا الجزم من خلال الصورة الأولية التي كوّنها عنه في هذا اللقاء، ولكن يمكن القول إنّ حضور صفير أمامه وعرضه للقضية بثقة ومن دون مواربة قد ترك أثراً لدى البابا الذي كان بدأ يهزّ الشرق بيمينه.
زيارة سريعة إلى زوريخ
لم يكن اللقاء مع البابا نهاية إقامة المطران صفير ومهمّته في روما. بعد ذلك اللقاء انتقل من روما إلى زوريخ في سويسرا لحضور اجتماع مجلس إدارة «شركة الترابة اللبنانية» في شكا التي كان أسّسها في العام 1953 البطريرك أنطون عريضة. في 29 كانون الثاني 1986 أفاق في زوريخ باكراً ولم يستطع أن يحتفل بالذبيحة الإلهية، ولعلّه من الأيام القليلة في حياته التي لم يتمكّن فيها من الاحتفال بهذه الذبيحة. كان قد سأل عن كنيسة كاثوليكية ليحتفل فيها بالقداس، ولكن لم يستطع أحد أن يدلّه على واحدة، لا من اللبنانيين ولا من السويسريين الذين يهتمّون بشركة الترابة.
بعدما شارك في اجتماع مجلس الإدارة، تناول طعام الغداء في مطعم أحد الفنادق مع عدد من اللبنانيين قبل أن يعود إلى روما حيث كان لا يزال ينتظره لقاء هام مع الكاردينال أشيل سيلفستريني. في 31 كانون الثاني كان هذا اللقاء مع أمين سر دولة الفاتيكان.
اللقاء الأصعب مع سيلفستريني
عند الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق، ترك جلسة اللجنة القانونية في المجمع الشرقي واتّجه إلى القصر الرسولي سيراً على الأقدام، وهو يَبعُد مسافة عشر دقائق منه. كان المطر يتهاطل، فاستعان المطران صفير بمظلة المطران إميل عيد، ولكنّه على رغم ذلك تبلّل بعض الشيء. كانت السماء مكفهرّة. وصل إلى القصر الرسولي قبل الموعد المحدّد له مع سيلفستريني بربع ساعة. دخل المصعد وسأل عنه. أشار اليه الحارس السويسري بالاتجاه إلى منتصف ممرّ إلى اليمين «هناك حيث هذا الباب المفتوح». دخل، فإذا هناك حاجبان في الداخل. أعلن عن اسمه فقاده أحدهما إلى قاعة الانتظار.
كان يدرك مسبقاً أنّ لقاءه مع سيلفستريني سيكون الأصعب، نظراً إلى الأجواء المسبقة التي نقلها إليه المونسنيور منجد الهاشم وتتعلّق بموقف سيلفستريني السلبي من موقف المطارنة وطريقة مخاطبتهم الكرسي الرسولي. بالنسبة إليه ربّما كان لقاؤه مع البابا أسهل من هذا اللقاء. ومع ذلك لم يتردّد. فإذا كان أوصل الرسالة إلى رأس الكنيسة فلن تكون هناك عوائق أمامه مع من هم أدنى رتبة منه وينفِّذون تعليماته.
قدَّر المطران صفير مساحة الغرفة التي كان ينتظر فيها بستة أمتار عرضاً و12 متراً طولاً. فيها طاولة في النصف وثلاث طاولات توزّعت على الجوانب وحوالى 12 كرسياً، منها ستة قديمة عالية والستة الباقية من طراز أقلّ قدماً. وقد عُلِّقت على جدرانها المكسوّة بالورق الجدراني خمس لوحات قديمة، وكان كلّ ما في القاعة يوحي بالرهبة ولا سيما الصمت العميق الذي لا يقطعه إلا بعض أصوات بين الحين والحين آتية من البعيد، وبعض ضربات لقدّوم قد تكون ناتجة عن إصلاحات يقوم بها بعض العمال، وتكتكة ساعة جدارية تسير بانتظام.
لا يكفي إسقاط الإتفاق الثلاثي
عند الساعة الواحدة وسبع دقائق، إنفتح باب آخر في آخر القاعة إلى جهة اليمين وخرج منه سيلفستريني. بدا للمطران صفير، كما وصفه «أنّه في الخامسة والخمسين أو الستين من عمره، بدين إلى طول، يرتدي غمبازاً أسود، شعره يميل إلى الإغبرار». حيّاه واعتذر عن التأخّر ودعاه إلى الجلوس وقال له: «كان عندنا سفير سوريا وتحدّثنا عن لبنان طويلاً. وهو موضوع اهتمامنا». شكر له صفير استقباله إيّاه وما يقوم به في سبيل لبنان. تابع سيلفستريني الحديث قائلًا: «يجب أن يوحِّد المسيحيون كلمتهم لأنّ حالة لبنان ليست معقدة وحسب، بل هي حالة قد يصعب إصلاحها».
أجابه صفير: «هناك أيدٍ تتدخل لزرع الشقاق بين المسيحيين. فهذا يَعِدونه بمنصب وذاك يُغرونه بمطمع، وهذا… فضلاً عن أنّ هناك حساسيات بين المسيحيين تباعد بينهم». ردّ الكاردينال: «بكركي لم تتحرّك كفاية في الماضي ويجب أن تكون هناك كلمة موحّدة في صفوف الإكليركيين، ولا يكفي أن يُرفض الاتفاق الذي وقعه المحاربون (أي الاتفاق الثلاثي بين إيلي حبيقة عن «القوات اللبنانية»، ونبيه بري عن «حركة أمل»، ووليد جنبلاط عن «الحزب التقدمي الاشتراكي»)، بل يجب أن يُطرح سواه أفضل منه وإلا إشتعلت الحرب الأهلية. أجل إنّ المحاربين يمكنهم أن يقرّروا وقف النار ولكنّهم لا يستطيعون أن يقرّروا مصير البلاد السياسي، والاتفاق يجعل من لبنان دولة تابعة». ردّ صفير: «أجل إنّه يفقده سيادته وخصائصه».
كان هذا رأي صفير وسيلفستريني في الاتفاق الثلاثي بعد 15 يوماً فقط على إسقاطه. وهذا الرأي كان يعني أن «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع كانت في خط التاريخ الصحيح عندما أسقطت هذا الاتفاق.
بطريرك بلا صلاحيات ومدبّر بلا لقب
بعد ذلك تابع سيلفستريني الحديث سائلاً عن حال المدبّر المطران ابراهيم الحلو قائلاً لصفير: «يجب أن تساعدوه. وكن على ثقة أنّه لم يسعَ لنفسه، لكنّ قداسة البابا طلب منه هذه الخدمة فقَبِل». أجابه صفير: «لعلّ الكتاب الذي أرسله بعض المطارنة، وهم 11 مطراناً قد وصلكم؟». فقال: «إطلعنا عليه». تابع صفير: «يجب أن أنقل إليكم الانطباع وهو أنّ المطارنة شعروا بأنهم قد فقدوا رصيداً من الثقة لدى الشعب جرّاء هذا التعيين. فهم لم يُستشاروا، وكان منهم في روما يومذاك خمسة أو ستة بينما كانت هناك أصداء تتردّد أن المطران الحلو سيُعَيَّن. وشاع بين الناس أن التدبير اتُخذ:
(1) لأن المطارنة غير متفقين في ما بينهم،
(2) ولأنهم رفضوا أن يعقدوا المجمع الراعوي في روما،
(3) ولأنّ روما غير ممتنّة منهم والبابا لم يستقبلهم. وإن كل هذا ألقى عليهم ظلالاً من الشك، وهذا ما أساء إليهم واستاؤوا منه. لذلك كتبوا هذا الكتاب المعروف، والحالة غير طبيعية. هناك بطريرك مع لقب بلا صلاحيات، وهناك مطران مدبّر مع صلاحيات بلا لقب. ثم هناك ميل إلى تعيين مطارنة قبل انتخاب بطريرك وهم يطلبون انتخاب بطريرك قبل انتخاب مطارنة». إذّاك يروي صفير «رفع سيلفستريني رأسه وحاجبيه وارتسمت علامات تعجّب على وجهه وقال: «أين العجب إذا انتُخب المطارنة أولاً؟ يجب أن يدخل المجمع عناصر شابّة. وبعد، أفلا يجب انتخاب بدلاء عن الذين يستقيلون؟ وبعد، فالبطريرك أبدى كثيراً من التردد».
أجاب صفير: «إن الذين انتخبوا البطريرك خريش قد دخل عليهم في عهد بطريركيته تسعة جدد، ومجمع المطارنة لم يبقَ على حاله». فعلّق سيلفستريني: «هذا طبيعي». ثم تابع صفير: «إذا انتُخب المطارنة قبل انتخاب البطريرك، قد يُقال إن هذا الانتخاب يأتي لمصلحة شخص معيَّن وهو المدبِّر الذي سيقترح الأسماء. أفليس هو من يقترح»؟ أجاب سيلفستريني: «بلى. صحيح. لكنّ الأساقفة أحرار في أن ينتخبوا من يتمّ ترشيحه، أو ألّا ينتخبوا». أوضح صفير: «لكن الاتجاه يكون قد ارتسم». قال سيلفستريني: «لقد جاء المدبِّر ليعدَّ لانتخاب بطريرك. وهو لن يسعى لنفسه شخصياً. وقد يحترق، فهذه تضحية منه. وبعد، فإنّ الحالة لا تسمح اليوم بانتخاب بطريرك، وهي حالة طوارئ». إستنتج صفير أن الحالة ستطول وقال: «إن هذه الحالة غير طبيعية». رد سيلفستريني: «إنها كذلك».
ولكن اللقاء مع سيلفستريني لم ينته عند هذا الحد وكانت له تتمّة.
يتبع حلقة ثامنة السبت 8 حزيران 2024:
يجب تحاشي حصول امتحان قوة بين روما وبكركي... ماذا إذا دعا المدبِّر إلى انتخاب مطارنة ورفض الأساقفة؟